من تدبير تجسُّد المسيح إلى تدبير الروح القدس: |
سـر الفداء |
لقد أعلن الله نفسه، بوضوح، باعتباره الثالوث، وذلك في عمل الخلاص. وقد ظهر هذا الاستعلان في شخص المسيح أقنوم الابن المتجسِّد، الذي فيه تنازل الله ليكون بين الناس لكي يخلِّصهم.
والله المحب للبشر والمخلِّص هو إله يجمع، في وقت واحد، ما بين كونه إلهاً فوق الكل، وأيضاً مُستعلَناً في تنازله وتواضعه لكي يرفع البشر إليه.
لقد استُعلِن الله الثالوث هكذا في شخص المسيح ابن الله المتجسِّد، إذ صار الأقنوم الثاني إنساناً لكي يخلِّص البشر؛ بينما ظل الأقنوم الأول، الآب، فوق البشر، غير منظور، حتى يجذبهم الابن المتجسِّد إلى الآب ويرفعهم إليه ويُدخلهم في الشركة معه.
ذلك لأن الآب هو الذي يتجه إليه الابن منذ الأزل في حركة محبة أزلية منه نحو الآب، كما أعلن الوحي الإنجيلي في إنجيل يوحنا 1: 1 هكذا: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله (وترجمتها الحرفية: “متجهاً نحو الله” – ولم يستطع المترجم العربي أن يُترجم الحرف اليوناني pros ومعناه “نحو” إلاَّ بكلمة “عند”)”. وكما أن الآب هو الهدف الذي يتجه نحوه الابن؛ هكذا أصبح أيضاً الهدف الذي جاهد الابن وتعب لكي يجعل البشر يتجهون “نحو” الله ويصيرون “عنده”، وبهذا تصير لهم شركة معه. وما لم يكن الابن في طبيعته متجهاً نحو الله لما استطاع أن يطبع هذا النزوع والاتجاه نحو الله في كل المؤمنين باسمه المتحدين به.
وهكذا صار الابن إنساناً، ليكون النموذج والمركز الذي منه تشعُّ القوة لتجعل الناس متجهين نحو الله الآب. وهذه القوة التي تصير مُلازمة لهم وتمكث فيهم بالرغم من أنها تظل فوقهم، هي الأقنوم الإلهي الثالث: الروح القدس. ولابد أن يكون الروح القدس هو الأقنوم الإلهي لكي يمكنه أن يحقِّق هذه النعمة في البشر مع احتفاظه بارتفاعه فوق البشر، وذلك لكي يقودهم إلى داخل حضرة الله، وحتى بتقديسه لنا يُعطينا فرصة للشركة مع الله الآب.
ذبيحة الصليب كانت ضرورية لتحقيق ذلك:
ويشرح القديس غريغوريوس غاية تجسُّد ابن الله هذه من خلال ذبيحة صليبه وموته هكذا ليوضِّح هذه الغاية:
[لقد قَبـِلَ الآب ذبيحة ابنه، ليس لأنه كان محتاجاً إليها، بل لأنها في تدبيره كانت ضرورية للإنسان ليتقدَّس من خلال بشرية المسيح. وبالنسبة لله فلكي يدعونا إلى نفسه من خلال ابنه الوسيط الذي أكمل كل شيء من أجل مجد الرب.]وهكذا فإن البشرية، بمقتضى تدبير التجسُّد، صار لها الدعوة الجديدة المتجددة للتحرُّك مرة أخرى نحو الله. وكما يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي، فإن قيامة المسيح وصعوده إلى السماء، أكملت سلسلة الأحداث الخلاصية التي بها صنع الله خلاصنا في المسيح يسوع. يقول القديس غريغوريوس: “لقد أتى تدبير تجسُّد المسيح إلى ختامه.”
فالميلاد، والمعمودية، والمحاكمة، والموت، والدفن، والقيامة، والصعود؛ هي أحداث تمت وكملت في الزمن. وما سيتبع هذه، هو عمل – يقول عنه القديس غريغوريوس – “أكثر مجداً”، إنه الوفاء “بوعد” المسيح وتحقيق “رجائنا”. ووعد المسيح هو “حلول الروح القدس”. وقد بدأ تحقيقه بعد صعود المسيح.
دور الروح القدس في تدبير الخلاص:
يُجمع آباء الكنيسة على الربط بين دور الروح القدس في الخليقة الأولى وبين دوره في الخليقة الجديدة. فالروح القدس شارَك في تدبير الخلقة الأولى. والقديس غريغوريوس يتأمل في آية سفر أيوب 33: 4: “الروح الإلهي كوَّنني، ونفخة (أو نسمة) القدير قد علَّمتني” (حسب السبعينية)، وكذلك آية سفر المزامير 32: 6: “بكلمة الرب تأسست السموات، وكل قوَّاتها بروح (أو بنفخة) فمه” (النص عن الترجمة السبعينية). وهذا وارد في قصة خلقة الإنسان: “ونفخ (الله) في وجهه نفخة (أو نسمة) حياة” (تك 2: 6 – الترجمة السبعينية)، حيث يعتبرها القديس كيرلس الكبير أنها نفخة “الروح القدس”، الذي خلق النفس البشرية في الجسد الترابي الذي صنعه الله.
وهكذا اشترك الثالوث الأقدس في الخلقة الأولى للإنسان. والروح القدس كما اشترك في الخلقة الأولى، هكذا أيضاً اشترك في تدبير التجسُّد منذ الحَبَل بالابن في بطن العذراء، كما كان له عمل دائم خلال حياة الابن المتجسِّد. فقد كان الروح القدس سابقاً لميلاد المسيح، وشاهداً أثناء عماده، وهو الذي اقتاده خلال التجربة في البرية، وشريكه في عمل المعجزات وإخراج الشياطين. لقد كان الروح دائم المكوث في الابن، وليس – كما يُحذِّر القديس غريغوريوس – “مجرد قوة فاعلة”؛ بل كمَن يُرافق المثيل والمساوي له.
ويُلاحَظ أن الفكرة القائلة أن الروح القدس هو “قوة فاعلة” وليس أقنوماً، كانت شائعة لدى طائفة “الغنوسيين” الذين يبدو أنه كان لهم أتباع في أيام القديس غريغوريوس أيضاً.
وهكذا، فمنذ الخليقة وإلى القيامة كان الروح الأزلي يُشارك في تدبير الخلاص، والسبب بالتحديد هو أنه الله. ويشرح ذلك القديس غريغوريوس اللاهوتي بأن “الروح يُشارك مع الابن في كِلاَ عمل الخليقة وعمل القيامة”. فكما أن الابن خالق، كذلك الروح هو الروح الصانع (أو الخالق).
الروح القدس هو مُكمِّل وممتد بالتجسُّد:
من حيث إن صانع تدبير خلاصنا هو الله، ومن حيث إن الروح القدس هو الله؛ فإن دور الروح القدس في سر تدبير محبة الله لخليقته هو عمل خاص بعد أن اكتمل “تدبير تجسُّد المسيح” ببذل دمه كتقدمة لله. هذا العمل هو أن يُكمِّل للبشرية عمل الفداء الذي صنعه الله في المسيح. وهكذا يظهر الثالوث كله مشتركاً في عمل الخلاص: الآب كفاعل الخلاص، والابن كخالق الخلقة الجديدة، والروح القدس كمُكمِّل ومُتمم للخلاص.
والروح القدس يشهد بهذا العمل كمُكمِّل ومُتمم لِمَا فعله الآب وصنعه المسيح، يشهد بأنه من ذات جوهر اللاهوت الذي للآب والابن؛ ذلك لأن تكميل وتتميم ما عمله الآب والابن في الخلاص لا يمكن أن يقوم به إلاَّ الله.
ولبعض العلماء اللاهوتيين شرح مبسَّط لدور الروح القدس، أنه إذا كان ابن الله المتجسِّد هو القائم بعمل الفداء للبشرية في عمومها، فإن الروح القدس هو القائم بتقديم هذا الخلاص لنا فردياً، كل واحد منا على حِدَة إذا آمن، من خلال وسائط النعمة التي من خلالها نتمتع بهذا الفداء. أي أن ما أكمله المسيح كان ميراثاً للطبيعة البشرية ككل؛ بينما عمل الروح القدس هو تسليم ونقل هذا الميراث للإنسان البشري المفرد وعلى مدى الأجيال. ففي سر المعمودية مثلاً يكون العمل الرئيسي للروح القدس هو أن يجعل الخلاص الكامل الذي تمَّ للبشرية كلها، خلاصاً خاصاً للمؤمن المُعمَّد. وهذا ما سنشرحه بالتفصيل حينما نقدِّم شرح أسرار الكنيسة.
وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:
[يجب أن نعترف بأن الروح هو الله، وأنه من الله بالطبيعة، وأننا حقًّا نحن الذين حُسبنا مستحقين لنشترك في المسيح بالإيمان قد جُعلنا “شركاء الطبيعة الإلهية” (2بط 1: 4). وقيل عنا أننا “مولودون من الله” (يو 1: 13). ولذلك دُعينا “آلهة” (مز 82: 6، يو 10: 34)، ليس فقط بالنعمة كمَن نرتفع إلى مجد يفوقنا، بل لأننا نلنا سُكنى الله فينا بحسب النبوَّة “إني سأسكن فيهم وأسير بينهم” (2كو 6: 16 عن نبوَّات العهد القديم: خر 25: 8؛ 29: 45، لا 26: 12، حز 37: 27، إر 31: 1).]نفخة المسيح للروح القدس في وجه التلاميذ، استعادة لفقدان آدم الروح:
لقد بدأ الروح القدس مرة أخرى في الدخول إلى الحياة البشرية بعد (ومن خلال) ذبيحة المسيح، وموته، وقيامته. لقد كان التلاميذ في احتياج إلى أن يتقدَّسوا “بالآب القدوس الذي غرس فيهم الروح القدس من خلال ابنه”. وهذا حدث حينما قام المسيح من بين الأموات، ونفخ في وجه تلاميذه الروح القدس الذي كان قد فارق البشرية بسبب خطيئة آدم.
– ففي بداية الخلقة نفخ الله في “وجه” آدم (بحسب الترجمة السبعينية) الروح القدس (تك 2: 7).
– وبعد السقوط قال الله: “لا يعود روحي “يمكث” (بحسب الترجمة السبعينية) في هؤلاء البشر إلى الأبد.” (تك 6: 3)
– ثم وعد المسيح تلاميذه والبشرية: “وأنا أطلب من الآب فيُعطيكم مُعزِّياً آخر (مثيل المسيح) ليمكث معكم إلى الأبد.” (يو 14: 16)
– وبعد قيامة المسيح قال الرب لتلاميذه: “سلامٌ لكم. كما أرسلني الآب أُرسلكم أنا. ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس.” (يو 20: 21و22)
وهكذا اسْتُعيدت صورة الله للجنس البشري، وتجدَّدت خلقة البشرية كمثل القديم، بالروح القدس، الذي هو روح التجديد والتقديس.
ولهذا يكتب القديس كيرلس الكبير:
[لقد تكلَّمنا في الاتحاد بالله الآب بتوسُّط المسيح. إذ بنوالنا في أنفسنا، بكِلاَ المعنى الجسدي والمعنى الروحي، المسيح الذي هو الابن بالطبيعة، والذي هو في اتحادٍ جوهري مع الآب؛ فإننا نكون قد تمجَّدنا وصرنا شركاء الطبيعة الإلهية التي للعليِّ.]حلول الروح القدس يوم الخمسين، واكتماله بالإفخارستيا:
وبعد صعود المسيح، اجتمع التلاميذ “بنفسٍ واحدة (مواظبين) على الصلاة والطلبة” (أع 1: 14) في العِلِّية في أورشليم، ولكنهم لم يكونوا يكوِّنون الكنيسة. لقد كانوا ينتظرون تحقيق وعد المسيح لهم.
وفي يوم الخمسين حدث الحلول المفاجئ للروح القدس، حيث “امتلأ الجميع من الروح القدس” (أع 2: 4)، وبدأوا يتكلَّمون أمام الجموع “بعظائم الله”، أي أعمال الله العظيمة التي صنعها الله للبشرية بتجسُّد وآلام وموت ابنه من أجل خلاص البشرية ورجوعها إلى صورة الله.
وهنا تكوَّنت الكنيسة – ليس كمؤسسة – بل كخليقة جديدة بالنعمة. وبدأ الممتلئون بالروح القدس يعظون الشعب ويدعون الشعب إلى أن يعتمدوا لكي هم أيضاً ينالوا “عطية الروح القدس”، ويشتركوا في حَدَث يوم الخمسين الذي أصبح يوماً دائماً قائماً على مدى الأجيال. ثم اجتمع “الثلاثة الآلاف”، وهم نفس الذين اعتمدوا في هذا اليوم الأول، على مائدة الإفخارستيا “كسر الخبز”.
لقد كان حلول الروح القدس بمثابة تحرير للإنسان من حتميات الحياة البشرية العتيقة التي لا مكان فيها للنعمة الفائقة للطبيعة. لقد حلَّ الروح القدس على طبيعتنا ليُحوِّل، لا طبيعتنا إلى جوهر آخر؛ بل ليُحوِّل وجودنا من وجود يستمد بقاءه من العناصر الطبيعية، إلى الولادة الجديدة التي تستمد حياتها وخلودها من الله. وهذا التحوُّل يحدث في كل مرة نقدِّم فيها الإفخارستيا، حينما نُقدِّم الخبز والخمر ليتحوَّلا من “خبز مَن يأكله يموت” إلى خبز الحياة الأبدية “إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد” (يو 6: 51). وهذا التحوُّل يحدث ويكمل بالروح القدس.
ففي كل اجتماع إفخارستي (قداس) تستدعي الكنيسة الروح القدس ليُكمِّل هذا التحوُّل: “ليحلَّ روحك القدوس علينا، وعلى هذه القرابين الموضوعة، ويُطهِّرها، وينقلها، ويُظهرها قُدساً لقديسيك. وهذا الخبز يجعله جسداً مقدساً له، ربنا وإلهنا ومخلَّصنا يسوع المسيح؛ يُعطَى عنا خلاصاً، وغفراناً للخطايا، وحياة أبدية لمن يتناول منه. وهذه الكأس أيضاً دماً كريماً لعهده الجديد، ربنا وإلهنا ومخلِّصنا يسوع المسيح؛ يُعطَى عنا خلاصاً، وغفراناً للخطايا، وحياة أبدية لمن يتناول منه.” (القداس الإلهي – سر حلول الروح القدس)
وبهذا الأكل والشرب من جسد المسيح ودمه الأقدسين، وباتحادهما بجسد الإنسان ودمه وروحه؛ يتحد ما هو مخلوق بما هو ليس مخلوقاً، المائت يتحد بالحياة. وهكذا يصير اجتماع المؤمنين الإفخارستي تحقيقاً واستعلاناً لملكوت الله الآتي.