صيبة العين

صيبة العين

عندما يفاجئ المرض أو التوعك أحد الأطفال نرى أمه تحملنه إلى شيخ أو عجوز من الجيران طلباً للرقية أو ما نسمّيه بالعامية “الرقوة” دفعاً للعين الحاسدة لأن الاعتقاد السائد بأن المرض المفاجئ هو “صيبة عين”. وهذه ظاهرة تأتي ضمن عملية طرد الأرواح، وللكنيسة تعليم واضح ومحدد في هذا الشأن.

لكي نفهم نظرة الكنيسة وممارستها لطرد الأرواح الشريرة او النجسة يجب أن نفهم أولاً نظرتها للشر والشيطان. تعليم الآباء يؤكد أن مصدر الشر في العالم هو الشيطان الذي خلقه الله كملاك وأعطاه الحرية، ومن ثم كمخلوق حر اختار أن يتصدى لمشيئة الله. إذاً الشيطان هو ملاك ساقط غير شرير بطبيعته إنما بإرادته وفعله، ليس فيه أي حق إنما هو مليء بالخطأ والخديعة. كما أنه ليس مجرد غياب للخير إنما هو قوة فاعلة حرة تختار الشر دائماً. وللشيطان القدرة على معرفة القوى الإلهية كما يخبرنا الكتاب المقدس في أكثر من مكان. ومع هذا فقد حاول خديعة السيد المسيح بعد صومه الأربعين يوماً. لهذا هو يعرف المسيحيين ويهاجمهم لكن المجاهدين منهم يميزون خططَه. إذ أنه يستعمل مختلف وسائل الخديعة ليخضع الإنسان ويزرع التمرد على الله.

أما الله فهو أزلي وغير مخلوق وقد خلق المخلوقات أحراراً وسيبيد قوى الشر بقيامة الأموات وتجديد الخليقة. التحرر من كل شر يكون بالطاعة لله ومشيئته. هذا العالم هو أرض معركة بين قبول الخير والشر مع تشديد الكنيسة على أن العالم كخليقة لله ليس شراً إنما الشر هو عمل الشيطان الذي هو قوة طفيلية تهاجم العالم والتي سوف تُدمَّر بقوة الصليب وقيامة السيد في اليوم الأخير إذ ليس من حل وسط بين الشر والخير.

السيد المسيح أرسل تلاميذه ليخرجوا الشياطين (متى 8:10، لوقا 17:10-20) وأوصى بأن لا يمنعوا من يخرج الشياطين باسمه (لوقا 49:9). إضافة إلى هذا هو أخرج كثيرين منها (الرجل في مجمع كفرناحوم في مرقس 23:1-27، الولد الممسوس في لوقا 38:9-43، المجنون في كورة الجرجسيين في متى 28:8 وغيرها). والعهد الجديد واضح جداً في رفض الممارسات الشعبية المستندة إلى تعويذات أو طقوس مستندة إلى طقوس سحرية لإخراج القوى الشيطانية من الناس لأنها تقوم على تديّن خرافي يوهم الناس. نعرف من حادثة اليهود الطوافين في أعمال الرسل 13:19 أنهم أرادوا استعمال اسم يسوع والرسول بولس لكن الأرواح لم ترهبهم وفضحتهم. نحن نؤمن بأن اسم يسوع يخرج الشياطين ويبيد القوى الشريرة. آباء الكنيسة قبلوا هذا التعليم وتوسعوا فيه وكتبوا عنه مثل أغناطيوس الأنطاكي ويوستينوس الشهيد واكليمنضس الإسكندري والذهبي الفم وباسيليوس الكبير وغيرهم.

في ممارسة الكنيسة الأرثوذكسية صلوات لطرد الأرواح الشريرة من الناس والأشياء والأماكن، أهمها ثلاث: استقسامات المعمودية، صلاة العين الحاسدة والصلاة للمتسلط عليهم روح نجس. في العصور الأولى للكنيسة كان يقوم بصلاة طرد الأرواح شخص مفروز لهذا العمل. ابتداءً من القرن الرابع صارت هذه المهمة من أعمال الكاهن الذي يصلي لطرد كل شر وروح شرير كعبادة الأوثان والحسد والكذب وكل عمل خبيث ناشئ من تعليم الشيطان. من هنا أن رفض الشيطان هو جزء ثابت في كل معمودية أرثوذكسية.

أما العين الحاسدة فهي ظاهرة كانت الناس يقبلونها كحقيقة إذ أنهم آمنوا بأن لبعض الأفراد أحاسيس قوية من الحسد والغيرة لدرجة أنهم إذا نظروا شيئاً جميلاً أو شخصاً مميزاً يجلبون عليه الأذى. لا نعرف تحديداً متى أُضيفت صلاة العين الحاسدة إلى كتاب صلوات الكاهن لكن الأكيد أنها دخلت استجابة لعدم نضوج عدد من المؤمنين وعدم تخليهم عن عاداتهم السابق. فالكنيسة عمّدت هذه الظاهرة وعلّمت الناس أن العين الحاسدة هي أن يستغل الشيطان حسد بعض الأفراد نحو نِعَم لا يملكونها كالجمال والشباب والشجاعة والصحة وغيرها، فيسبب الأذى لمن يملكها. أي تعليم غير هذا لم تتبناه الكنيسة لأنه ينافي إيمانها بالعناية الإلهية. والكنيسة منعت وتمنع أبناءها من الالتجاء إلى الرقاة (الذين يمارسون الرقية والتعاويذ) الذين يستغلون ضعف الناس نحو الخرافات وبالتالي يسيئون إليهم روحياً ومادياً باللعب على مخيلتهم. الكنيسة تقصد هنا الذين أسلموا أنفسهم للشيطان فأضحوا كهنة له يعبثون بأفكار الناس موهمين إياهم بأنهم قادرون من خلال تعويذاتهم على رفع الضرر أو إنزاله بمَن يشاؤون، فالكنيسة توصي بالابتعاد عن هؤلاء والصلاة من أجلهم حتى يتوبوا. لكن هناك أفراد نعرفهم توارثوا الرقية في القرى والأحياء فهم ليسوا مشعوذين عن قصد، لكن ينبغي أن يفهموا تعليم الكنيسة الصحيح. هنا لا بد من التوقف عند الصلوات التي تُقال والطقوس التي تمارَس في الرقية كصب الرصاص مثلاً. قد تحتوي بعض هذه الصلوات على ذكر لبعض القديسين أو والدة الإله أو حتى المسيح نفسه، لكنها لا تستدعيه كإله ولا تجابه الروح الشرير بقوته وبالتالي هذه الصلوات ليست إلا شكلاً من أشكال الخديعة التي يمارسها الشيطان على الناس. أما صب الرصاص فهو طقس مجاور للسحر ويتثبت هذا من الصلوات التي يقولها ممارس الطقس. كل هذا إضافة إلى القوانين المرافقة لهذه الطقوس كاستعمال ورق شجر محدد وأن لا يتمكن الرجل من تعليم الرقية لرجل آخر إنما لامرأة وغيرها.

قد يحلو للبعض أن يدّعي بأن الكنيسة لا تسمح بالرقية والتعويذات لكي يحتكر الكهنة هذه الممارسة. هذا كلام مغلوط إذ أن الكنيسة، استناداً إلى الكتاب المقدس، تشجع المؤمنين على أن يصلوا لبعضهم البعض “أمريض أحد بينكم فليدعُ شيوخ الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب. وصلاة الإيمان تشفي المريض والرب يقيمه وإن كان فعل خطيئة تُغفر له… صلوا بعضكم لأجل بعض لكي تشفوا” (رسالة يعقوب 14:5-16). إضافة إلى أن المسيح لم يعلم تلاميذه أن يمنعوا الذين يخرجون الشيطان باسمه. الكنيسة تتابع من خلال الليتورجيا ما بدأه الرب يسوع نفسه خلال تجسده ولهذا تعرف تأثير الشرير وتضحده باسم المسيح بالصلوات والأصوام ولا تمنع مَن يخرجه باسم السيد فعلاً.

ختاماً يسوع المسيح هو المبيد الأول والوحيد للأرواح الشريرة لأنه الوحيد القادر على غلبة الشيطان وأي كلام آخر هو شعوذة. أي التجاء إلى غير المسيح هو تعامل مع الشيطان واعتراف بسلطته وإخراج له ببعلزبول. أي صلاة أو رقية لا تستدعي إسم يسوع المسيح وتعلنه إلهاً وملكاً ليست منه. كل مؤمن هو طارد للأرواح في جهاده لتنقية نفسه من خطاياه الشخصية ومنع الشر. من هنا أن على المؤمن الواعي بأن المسيح هو سيد الخليقة المطلق أن يفهم أنه ليس هناك عين حاسدة إنما هناك شيطان مترصد بالإنسان ليؤذيه ويحرضه على الآخرين متهماً إياهم بالحسد وإضمار الشر.