أبوة الله

تأملات آبائية في: أُبـوَّة الله
“أنا قلتُ إنكم آلهة وبنو العليِّ كلكم.”
(مز 82: 6)

يشهد الكتاب المقدس وتاريخ البشرية كلاهما على أُبوَّة الله للبشر حتى للأشرار، كما يقول الرب: “يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويُمطر على الأبرار والظالمين” (مت 5: 45). ولكنه يهتم بأحبائه الذين يؤمنون بأُبوَّته بصفة خاصة: “حيث رأيتَ كيف حملك الرب إلهك كما يحمل الإنسان ابنه في كل الطريق التي سلكتموها” (تث 1: 31)، “إن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها” (مت 6: 32). بل إنه وصف عنايته بنا بأنها أكثر من اعتناء الأُم برضيعها: “هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسَيْن وأنا لا أنساكِ. هوذا على كفَّيَّ نقشتكِ.” (إش 49: 15و16)
بل إن الرب يسوع جعل لنا ملكوتاً كما جعل له أبوه ملكوتاً: “أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي” (لو 22: 28-30). وكأن المسيح يرفع تلاميذه وأحباءه إلى مستوى بنوَّته ولكن بالنعمة، إذ يُجلسهم معه على مائدته السماوية كما يجلس هو عن يمين أبيه.

اتضاع الله الآب

يدعو الرب كل خادم وكل راعٍ للنفوس أن يتشبَّه بالآب السماوي في حبه واتضاعه وبذله لابنه وسخائه في العطاء الذي يشمل الجميع، هذا “الذي منه تُسمَّى كل عشيرة (في اللغة اليونانية patr…a patria أي “أُبوَّة”) في السموات وعلى الأرض” (أف 3: 15). فهذه الآية تشرح حقيقة أن الأب الأرضي – سواء كان جسدياً أو روحياً – إنما هو أيقونة للأقنوم الأول من الثالوث. وفي ذلك يقول القديس أثناسيوس: “إن الله وحده هو الآب لابنه، ولكن البشر أيضاً يُدعَوْن آباء لأبنائهم.”( )

“متى صلَّيتم فقولوا: أبانا…”

عندما رأى الرسل الرب يسوع يُصلِّي، فلا شكَّ أنهم تأثروا بطريقة صلاته وامتلائها بالحرارة والحب لأبيه القدوس. لذلك سألوه قائلين: “يا رب علِّمنا أن نُصلِّي… فقال لهم: متى صلَّيتم فقولوا: أبانا الذي في السموات” (لو 11: 1و2). والقديس كيرلس الكبير يقول في ذلك:

[يقول الرسول بولس: “لسنا نعلم ما نصلِّي لأجله كما ينبغي” (رو 8: 26). فلنقترب إلى المسيح مانح الحكمة قائلين: “يا رب علِّمنا أن نصلي” (لو 11: 1)، فنشابه الرسل القديسين الذين طلبوا منه فوق كل شيء هذا الدرس النافع الخلاصي. فقال لهم المخلِّص: “متى صلَّيتم فقولوا: أبانا الذي في السموات”.

يا للسخاء غير المحدود! يا للكرم المنقطع النظير الذي يليق به وحده! إنه يمنحنا مجده الخصوصي. إنه يرفع العبيد إلى كرامة الحرية. إنه يكلِّل منزلة الإنسان بكرامة تفوق قوة الطبيعة. إنه يُحقِّق قول المرتِّل: “أنا قلتُ إنكم آلهة وبنو العليِّ كلكم” (مز 82: 6)، لأنه ها هو ينقذنا من منزلة العبيد مانحاً إيانا بنعمته ما لم نمتلكه بحسب الطبيعة، ويسمح لنا أن ندعو الله أباً لنا إذ اعتبرَنا في مرتبة الأبناء. لقد نلنا ذلك منه مع جميع الميزات الأخرى. ويشهد بذلك القديس الحكيم يوحنا الإنجيلي قائلاً: “إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله. وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه. الذين وُلدوا ليس من دمٍ، ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل بل من الله” (يو 1: 11-13). لأننا قد تشكَّلنا على البنوَّة بذلك الميلاد الذي تم روحياً فينا “لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية” (1بط 1: 23)، “شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورةً من خلائقه” (يع 1: 18). كما أن المسيح نفسه شرح طريقة الولادة الجديدة بإعلانه قائلاً: “الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.” (يو 3: 5)

لقد اتخذ الرب لنفسه في تدبيره ما لنا، وأعطانا ما له. ومن بين تلك الأمور التي له: كرامة الحرية، وهي العطية التي تليق بصفة خاصة بالذين دُعوا إلى البنوَّة، لأنه قال: “ولا تَدْعُوا لكم أباً على الأرض، لأن أباكم واحدٌ الذي في السموات” (مت 23: 9)…]( )

مسئوليات البنوَّة

يُكمِل القديس كيرلس الكبير حديثه قائلاً:

[… إن كنا ندعو الله أباً وقد حُسبنا أهلاً لهذه الكرامة المميَّزة، أليس من الضروري أن نجعل حياتنا خاليةً من اللوم تماماً، وهكذا نسلك كما يُرضي أبانا ولا نفكر أو نقول شيئاً غير لائق أو لا يتلاءم مع الحرية التي مُنحنا إياها؟ ولذلك قال الرسول بطرس: “إن كنتم تدعون أباً الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد، فسيروا زمان غربتكم بخوف.” (1بط 1: 17)

لأنه من أخطر الأمور أن نُحزن ونغيظ أباً بأن ننحرف نحو الأمور الخاطئة. عندما يجد الآباء الأرضيون أن أبناءهم يريدون أن يتبعوا رغبات آبائهم ويختارون منهج السلوك الذي يسرُّهم؛ يحبونهم ويكرِّمونهم فيفتحون لهم بيوتهم ويُضاعفون لهم عطاياهم من أي شيء يرغبونه، ويعتبرونهم وارثين لهم! أما إذا كانوا غير مطيعين ولا يحترمون نواميس الطبيعة ولا يبالون بتلك العاطفة التي زُرعت فينا؛ فإنهم يطردونهم من بيوتهم ويعتبرونهم غير مستحقين لأية كرامة أو رفق أو محبة، بل إنهم يرفضون أن يعترفوا أنهم أبناؤهم ولا يوصون بأن يكونوا وارثين لهم.

ثم أرجوكم أن ترتفعوا الآن من الأمور التي تخصنا إلى تلك التي تفوق طبيعتنا. إنكم تدعون الله أباً، فكرِّموه بطاعة حاضرة متأهِّبة، وأذعنوا له بخضوع كما يحق له، عيشوا حسبما يُرضيه، ولا تكونوا عنفاء أو متكبرين، بل مذعنين خاضعين، ومستعدين بدون تأخير أن تتبعوا توجيهاته حتى يكرمكم مقابل ذلك، ويُعيِّنكم ورثةً كشركاء لذاك الذي هو ابنه بحسب الطبيعة، لأن “الذي لم يُشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء” (رو 8: 32)!… خافوا، إذن، لئلا يقول الله عنكم: “اسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض، لأن الرب يتكلَّم: ربَّيتُ بنين ونشَّأتهم، أما هم فعصوا عليَّ.” (إش 1: 2)

إذن، فبكل حكمة يمنحنا مخلِّص الجميع أن ندعو الله أباً لكي نسلك كأبناء لله بما يجعلنا مستحقين لذاك الذي كرَّمنا، وبذلك يقبل توسُّلاتنا التي نقدِّمها في المسيح.]( )

Scroll to Top