أرض الميعاد
في هذا الموضوع الشائك، لا بد أن نشير إلى النظرة الدينية اللاهوتية، وإلى النظرة السياسية لمعنى أرض الميعاد.
من جهة أرض الميعاد، هي عبارة عن مسيرة البشرية منذ يوم الخلق إلى يوم البعث. نرى في العهد القديم أن الإنسان كان في تنازل وتباعد عن أرض الميعاد، وفي العهد جديد تصاعد واقتراب، ويوم البعث بالحقيقة سيستوطن الإنسان أرض الميعاد.
في بدء الحديث لا بد أن نشير أيضاً ان مصطلح “أرض الميعاد” يرتبط تلقائياً مع مصطلح “أورشليم” وكذلك مع مصطلح “شعب الله المختار” ومع “إسرائيل“، ولا يجوز الفصل بينهم. فجميعهم هي خطة واحدة في الإعلان الإلهي لخلاص الإنسان. ولكن المشكلة تكمن في استعمال المصطلح من البشر البعيدين عن الله.
مقدمة:
نرى في عملية الخلق، أن الله تعالى خلق الخليقة كلها لأجل الإنسان، وأسكنه “أرض الجنة الموعودة” وأعطاه كل شيء وأقامه سيداً على سائر الخليقة. (تكوين 19:2)، اُختير الإنسان من بين سائر الخليقة الروحية والمادية، فأصبح الإنسان “شعب الله المختار“. وأرض الجنة هي “أرض الميعاد“.
الشرط
ولكي يبقى الإنسان “شعب الله” وساكن في أرض الميعاد – الجنة، كان عليه المحافظة على وصية الله، على العهد الذي بينهم، فالله أعطاه الحياة، وقال له لا تأكل من شجرة وسط الجنة فمتاً تموت، ولكن الإنسان اختار الموت، والابتعاد عن الحضرة الإلهية، عن أرض الميعاد. فطرد إذاً من أرض الجنة وسكن أرضاً غريبة عنه تقسو عليه. (تكوين 24:3).
من هذه المقدنة البسيطة نرى أن أرض الميعاد وشعب الله هي حقيقة واقعية روحية هي الإنسان وعلاقته بالعزة الإلهية.
في موضوع يومنا علينا البحث في ثلاثة نقاط:
1: من هو شعب الله اليوم؟
2: ماذا تعتقد المسيحية واليهوديةفي شأن شعب الله وأرض الميعاد في الماضي والحاضر والمستقبل؟
3: ماذا تعتقد الصهيونية في هذا الموضوع؟
أرض الميعاد والعهد القديم
نرى في العهد القديم أن الله العلي كان دائماً بجانب رجالاً صديقين معينيين، وكان ذلك رباطهم الإيماني بالله. وعندما تشتت الشعب من جديد في بابل الكبرياء، صار شعوباً كثيرة كل بلغته وقوميته، والمخطط الإلهي هو اعادة وحدة صف الإنسان في شعب واحد يسير على أسس الإيمان والمحبة. لهذا اختار الله شعباً له من بين الشعوب كلها كرمز توحيد ومحبة، وكإشارة للشعب الحقيقي الآتي اختياره في العهد الجديد.
الإختيار
ان اختيار الشعب العبراني “شعباً لله” كان لا بد منه، وذلك ليكون تناسق ووحدة وقوة في التعبير عن رسالة التوحيد، ولكن الاختيار لم يكن أن الله تعالى أحب الشعب العبري أكثر من غيره أو ميزه عن غيره. بل كان المحبة الإلأهية تعمل في توحيد البشرية وخاصة أنه تواجد بعض الأشخاص ممن تربطهم مع الله علاقة إيمان وتقوى. والهدف من هذا الاختيار تعليم وإرشاد الأمم أنه من يحافظ على وصايا وتعاليم الله يحظى بالعناية الإلهية. يشير سفر التثنية (7:7) وأيضاً سفري أشعياء (8:41 و 12:48) وهوشع 1:11) أن الله اختار العبرانيين لا لإستحقاقات منهم ولا بسبب عددهم، بل بسبب محبة الله ورحمته.
قطع الله مع هذا الشعب عهداً، ونراه واضحاً ومتبلوراً مع إبراهيم، ومن شروط اختياره هوعهده أن يحفظ شعبه تعاليمه ووصاياه تعالى، وإلا فإنه سبحانه لا يعترف به شعباً (تثنية (11:7). قُطع العهد بين الله والشعب بدم الذبيحة (خروج 8:24) وصار الشعب مُلك الله وميراثه تعالى (تثنية 6:7 و أرميا 3:2) وصار الشعب مملكة من الكهنة (خروج 6:19) وصارت رسالتهم أن يكونوا شهوداً لإله الواحد بين الأمم (أشعيا 8:44). وأخرج الله الشعب من أرض العبودية ونقلهم من الصحراء إلى أرض كنعان، حيث أصبح الإلأه الواحد الحقيقي يملك بعد أن كانت أرضاً وثنية (1 ملوك 15:8) وهي الأرض التي وعد الله بها أجداد العبرانين.
هكذا تتضح لنا الصورة أن الله في العهد القديم يُهيء البشرية لشعب جديد وعهد جديد، فيقول بولس الرسول في رسالته للعبرانيين (19:7، 9:9، 1:10) أن شعب العهد القديم لم يبق “مقدساً” لكثرة خطاياه وخياناته التي جلبت عليه العقاب والجلاء والشتات. ويؤيد النبي هوشع كلام بولس في (6:1-9).
إذاً لم يعد الشعب العبراني شعباً مقدساً ولا مستحقاً لأن يكون يكون شعب الله. وبما أمه فقد هذه الميزة فإنه طرد وتشتت من أرض الميعاد كما طرد آدم من الجنة، لهذا يخلق الله شعباً جديداً يقول حزقيال (26:36)، وأن الله سيقطع عهداً جديداً وسيكون شعباً مقدساً، (راجع أرميا 31:31 حزقيال 26:27 أشعياء 12:62) وهذا الشعب يصبح قطيع الله وعروسه (هوشع 21:2 وأرميا 10:31) وستألف الشعب الجديد مع جميع الشعوب (أشعياء 2:2) ويكون لجميع الأمم شركة في البركة الموعودة لإبراهيم (أرميا 2:4)، ويضيف أشعياء في (6:42) أن الأمم ستكون شعباً لله وستشترك في العهد عن طريق وسيط عظيم عبد الرب المتألم.
مما تقدم من مقتطفات العهد القديم نرى أن إختيار الله للعبرانيين كان خطوة أولى لعهد جديد مع جميع الناس. شعب جديد أمة جديدة، عرق جديد تتجمع فيه الشعوب مع “شعب إله إبراهيم” (مزمور 10:47) وستكون شريعة الرب في القلوب لا على ألواح من حجر (إرميا 33:31) وسيملك ابن داود على جميع الشعوب وتعترف جميع الأمم بملكية الله (زكريا (16:14)، وسيكون هناك للشعب الجديد خروج جديد من العبودية، عودة إلى أرض الميعاد، وسلام شامل (هوشع 17:2 أرميا 21:31، حزقيال 21:37) أرض الميعاد ستكون أرض مقدسة جديدة للشعب المختار الجديد (حزقيال 14:34).
أرض الميعاد والعهد الجديد
ان العهد الجديد قطع بدم المسيح (2 كورنثوس 16:6 ورؤيا 3:214) وشعب مختار جديد مقدس بدم المسيح (عبرانيين 12:13) ويدخل المرء في هذا الشعب عن طريق الإيمان، ويصبح ابناً لإبراهيم بالإيمان (غلاطية 7:3 روميا 3:8) شعب جديد تُطبق عليه صفات الشعب المختار سابقاً وألقابهم. شعب مختار أمة مقدسة، عروسة الله،،،،،
وطن الشعب الجديد هو السماء يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيلبي (20:3)، وفي رسالته إلى أهل غلاطية (26:2) يقول هم أبناء أورشليم السماوية. وترتل الكنيسة في عيد البعث: استنيري استنيري يا أورشليم الجديدة. إذاً العهد الجديد يشير أن أرض الميعاد هي أرض السماء الجنة.
ان صلب الإله الإنسان يسوع المسيح من قبل اليهود، الشعب المختار سابقاً، فتح للشعوب كلها باب الدخول في شعب جسد المسح الكنيسة – شعب الله المختار الجديد، وأبطل امتياز الشعب العبراني. وعملية الفداء أعطت مفتاح الدخول إلى الوطن السماوي “أرض الميعاد” إلى أورشليم الجديدة. (راجع أفسس 14:2 يوحنا 25:11 أعمال 14:15 رومية 25:9 بطرس 10:2 أعمال 18:26)
وكذلك من أمثال السيد المسيح كمثل الابنين (متى 28:21) والمدعوين إلى العرس (متى 1:22) والكرامون القتلة (متى 33:21) نرى أن الشعب الرفدي العبراني رفض ملك الملوك، وبإختياره فقد ميزة الشعب المختار.
إذاً من هو شعب الله المختار؟
يتضح لنا من العهد العتيق والعهد الجديد أمراً واحداً هو أن شعب الله المختار هو الشعب المؤمن والعامل بوصايا الله تعالى. الذي أُفتدي من الرب يسوع على خشبة الصليب. وهذا الشعب هو الأمة المسيحية. وأرض الميعاد في حاضرنا هي الكنيسة. وفي المستقبل في يوم البعث ستكون أرض الملكوت، وسيقطنها الشعب المسيحي، شعب الله، وسيجلس على العرش المسيح القائم من بين الأموات.
هذا من الوجهه الدينية اللاهوتية التي تؤمن بها الكنيسة ويعلم بها الكتاب المقدس. أم من ناحية الوجهه السياسية، فيختلف الأمر.
إنه عبر العصور المنصرمة حافظ اليهود على ديانتهم بلا قومية. ومن كثرة النكسات التي جلبوها على أنفسهم بسبب حب السيطرة. ضاق العالم بهم. فأين حلوا كانوا سبب خيانة وفوضى، أو سبب سيطرة وقوة إقتصادية. فكان جزائهم إما الطرد كما حدث في القرن الخامس حيث طردوا مقاطعة الأندلس الإسبانية، وإما الإطهاد أحياناً.
حاول العالم الغربي في الزمن الأخير التخلص من اليهود، بحجج وأساليب متنوعة. وقد شعر اليهود بالبغض المخفي والعلني أحياناً، ولم يكن لهم مخرج في كثر من الأحيان. فعقدوا سنة 1896م المؤتمر الصهيوني الأول يزعامة هرتسل، لحل هذه المشكلة، وتوجهت أنظار المؤتمرون على ضرورة إيجاد أرض يسكنها اليهود تكون تحت سيطرتهم. ووضعت عدة دول لتحقيق غايتهم، كمثل الأرجنتين أو غينيا أو فلسطين، وغيرها.. كان كل اقتراح يلاقي ترحيباً من بعض الدول الغربية التي يتوافق مع مصالحها. إلا أن اختيار أرض فلسطين كان أقوى وذات مصلحة بريطانية آنذاك. وهكذا أخذوا يحبكون الأمور في تهيئة العالم لهذا الغرض، ووجدوا استغلال الكتاب المقدس وسلية ناجحة في اقناع العالم الغربي من ناحية حق ديني.
عندها ظهرت الفكرة “فلسطين هي أرض الآباء والأجداد” هي أرض الميعاد” وأن “الشعب اليهودي هو شعب الله المختار” لم يكن بوسع الإنسان الغربي البسيط تفهم أبعاد هذه البدعة، وبدون أن يعلم أنه يخالف تعاليم الكتاب المقدس والكنيسة أخذ يتشجع ويساعد اليهود لتحقيق أهدافهم، وما زال العالم الغربي (أو أغلبيته) من الناحية الدينية مخدوعاً بهذه البدعة.
ومن جهة سياسية لاقى اليهود تأييداً من الحكومات الغربية التي كانت تهدف التخلص منهم وزرعهم بعيداً عن أراضيهم. وأيضاً لاقى اليهود تشجيعاً من أصحاب الإقتصاد الغربي. ومع أنه قد تحقق هذا إلا أن دهاء اليهود كان أنجح، فقد حقق الصهاينة هدفهم من عدة نواحي: تضليل المسيحيين في إعتقادهم الديني. السيطرة الفكرية والإقتصادية على العالم، كسب أرض لم تكن لهم أقاموا عليها وطناً، وأخيراً جعلوا الحكومات لا تستطيع التخلي عنهم.
ذهكذا ظهر تيار جديد في العالم، يشكل خطراً كبيراً على العالم يُسمى الصهيونية، فاستطاعت التغلغل الخفي والتدخل غير الظاهر في حكومات العالم وخاصة الغربي. ونرى هذه الخطة واضحة في “برتوكولات حكماؤء صهيون”.
ونحن كعرب أيضاً نساعد اليهود في مخططاتهم بشكل غير مباشر، فالكراهية والعنصرية العمياء، جعلت العالم الغربي بالأخص يرأف ويشفق على اليهود. أعتقد أنه علينا أن نعايش الأوربيين والأمريميين خطوات في العطف وأن نوضح لهم أنهم لم يخطئوا في العطف على اليهود إلا أنهم يخطئون إذا استنتجوا الصهيونية. ونكون نحن مخطئون إذا خلطنا بين الصهيونية واليهودية.
والحق أن صميم المشكلة اليهودية وحلها في الدول الغربية. قد تكون المشكلة في مقاصد الله أبعد مما نظن. وفي هذه الرؤية لا يسهل ردها إلى مجرد قضية سياسية. اليهود جزء من لهبة إلهية (ان جاز التعبير)، هم حملة لأثم كبير خلاصُهم في الارتداد عنه. ولذلك كان كل حل لتوطينهم في فلسطين أو غيرها حلاً سياسياً محضاً مبنياً على رؤية للتاريخ سطحية، تجاهلاً لسر عظيم. ومع ذلك هذ فحريتهم في البلاد التي يأتون منها إلينا تعني غهتداء الأروبيين والغرب أنفسهم إلى بدء مصالحة تاريخية مع عرق كرهوه، ونعني أن أوروبا وأمريكيا أوجدتا جواً روحياً من شأنه أن يرفع إثم الدم عن عواتق اليهود. كل هذا هو اعطاء قومية لليهود، ومحاولة لبعث القومية اليهودية عند الشعوب الغربية هو نكران للإعتقاد المسيحي القائل: اليهودية لن تكتمل ولن تنتعش إلا في المسيح. ولذلك كان تحويلها إلى صهيونية حركة منافية للتراث المسيحي واستغراقاً في التهوّد. وكان جمع شمل هذا الشعب في كيان قومي توطيداً لشعوبية كان عليهم أن يتجاوزوها ليصبحوا جزءاً من كيان روحي لا قومية فيه.
وأصبح العالم الغربي المتشبع بالأفكار الصهيونية أو المُسيطَر عليه فكرياً واقتصادياً قوة ضاربة بيد الصهيونية. لهذا ظهرت الخرافة الأمريكية المشهورة “ان إسرائيل قامت لتبقى” داعمين مقولتهم الساذجة بشهادة من العهد القديم من سفر إرميا (14:29) وكذلك حزقيال (53:16). وهي أن الله يخاطب العبرانيين قائلاً: “سأرد سبيكم” . هذا ما يحاول الغرب المتصهين إثباته. ونحن لا نعترض مع هذه النبؤة، بل نؤكد أنها تحققت قديماً منذ زمن بعيد جداً. ونقول: ألم يرد الله اليهود من سبي بابل بقيادة زربابل وعزرا ونحميا، عندما سمح لهم كورش ملك الفرس بالعودة.
ونذكر هنا أيضاً ان السيد المسيح لم يشر بتاتاً عندما أخبر عن دمار أورشليم وسقوطها سنة 70 م على يد تيطس الروماني، أن لهم عودة بعد تشتيتهم من جديد. وكذلك الرسل والتلاميذ ولا آباء الكنيسة أشاروا إلى ذلك. إنما بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين (22:2 و14:13) يشير أن اليهود الذين قبلوا الإيمان المسيحي “أنهم باهتدائهم قد أتوا ليس إلى أورشليم الأرضية بل إلى أورشليم السماوية،،، لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلي الآتية“.
الصهيونية واليهودية:
يوجد يهود عقلاء وربانيون كثيون يكافحوا الفكر الصهيوني، كمثل عمانوئيل ليفين الذي كتب في جريدة ليموند عدد 24 أيار لسنة 1967 أن اسطورة وطن لليهود هي قصة صهيونية وليس لها علاقة بالديانة اليهودية.
أكرر وأقول انه لا يجب أن نخلط بين اليهوية والصهيونية. فاليهويدة لا تدعوا لانشاء دولة. وقد عُرفت بلادنا محاولا سياسية متعددة المشارب للرد على الصهيونية باسم الحضارة الكنعانية والآلهة الكنعانية والسلفية الأثرية اليمينية، كأن المهم أن نُبين تفوق أجدادنا الحضاري على اليهود، وكأن الصراع أصبح صراع متحفي وتراشق أساطير. ولكن مأخذنا بالضبط على الصهيونية تحريفها كتاب العهد القديم. وجعل التوارة ملحمة قومية، وفي عقل الأنبياء هي قصة الله مع الناس لا قصة الناس. هي رواية تدخل الله فيها لانقاذ الناس، وهي كذلك رواية خيانة اليهود للحيلولة دون الخلاص. إن محاولة بعض اليهود ليصيروا عنصريين لا نكافحهم بزخم عنصري مضاد، ولا نرمي بالكتاب الإلهي جانباً لكون الصهيانة جعلوه دستورهم القومي.
الختام
أما فكرة “الشعب المختار” فلا يجب التخوف منها فهي لا تعني إلا محبة الله لشعب موحد تحت بركة إبراهيم. فلا فضل لأحد على أحد بسبب جنس بل بسبب الفضل الإلهي. وأن كلام الرب يسوع المسيح لشعبه المختار الجديد، الكنيسة، هو أحبوا بعضكم بعضاً باركوا لاعنيكم. لا يعني أن نتقاعس عن أحابيل وألاعيب الصهاينة الباطلة. بل علينا مكافحتها. ففي كفاحنا في سبيل فلسطين لا يجوز الطعن في التوراة. مصالحتنا هي مع الشعوب. وحتى تمم المصالحة الصادقة ينبغي أن يزول من الأرض كيان قام فيها ضد الله والسماء، هذا الكيان المُسمى “دولة إسرائيل، هو كيان ظلم، يجب التعفف منه.