من تاريخ كنيستنا – 19 – |
سِيَر البابوات البطاركة |
صورة مشرقة لأحد بابوات الإسكندرية
في سنة 673م، شغر الكرسي الإسكندري مرة أخرى بانتقال البابا أغاثو (أو يُكتب أحياناً “أغاثون”). وكانت سيرة الأب يوحنا تلميذه قد فاحت رائحتها الزكية بين الشعب القبطي وأراخنته، فانتُخِب بالإجماع لكرسي البطريركية في أول كيهك سنة 389 للشهداء / 673م، وكان ذلك في عهد خلافة معاوية بن أبي سفيان.
وقد استلم البابا الجديد رئاسة الكنيسة، ومشكلة ثيئودوروس الرئيس الخلقيدوني (وهو البطريرك المُعيَّن من قِِبَل ملك القسطنطينية، ولذلك بُدئ في تسميته “البطريرك الملكي”) قد تفاقمت، الذي انتهز فرصة خلو الكرسي البطريركي ووضع يده على كل شيء في البطريركية بالإسكندرية، ووضع أختامه على جميع ممتلكات الكنيسة القبطية، واغتصب كل ما أمكنه اغتصابه من أموالها. وهكذا غافل مساعي الأساقفة السبعة الذين كان قد انتدبهم الوالي المسلم مَسْلَمة لإقرار الأمور في سخا – وكانوا لا يزالون في المدينة – فتشاوروا مع إسحق الأرخن القبطي، وتقابلوا مع والي سخا وأعلموه بكل ما فعله ثيئودوروس الخلقيدوني؛ فاقتنع بعدالة قضيتهم ووافقهم على أن يتكلَّم هو بلسانهم مع مَسْلَمة. وهذا ما تمَّ، حيث أصدر هذا الأخير أمره برفع يد ثيئودوروس عن أموال الكنائس القبطية وممتلكاتها وبتجريده من كل سلطة مدنية. ولكن يبدو أن تنفيذ ذلك لم يتم بالسرعة المتوقعة.
ولما سيم البابا يوحنا الثالث، كان ثيئودوروس هذا قد مات ميتة سيئة، وتولَّى بدلاً منه ابنه عِوَضاً عنه. ولكن ابنه هذا كان له أمانة ومحبة تجاه البابا يوحنا حتى أنه صار له كابن لأبيه! وكان البابا من جهته يرشده كابن له.
تدابير الله تتم من خلال تتابُع الأحداث
ثم حدثت أحداث سياسية في مصر. فقد آلت الخلافة إلى “مروان”، وكان ذا مطامع واسعة، إحداها السيطرة على جميع البلدان المحتلة سيطرة فعلية. فعيَّن ابنه الأكبر “عبد الملك” والياً على سوريا، وابنه الثاني “عبد العزيز” والياً على مصر. وكان “عبد العزيز” هذا يميل بوجه عام إلى الاعتدال، فعيَّن كاتبين قبطيين في ديوانه (بمثابة وزيرين). فرأى هذا البابا الجليل أن ينتهز الفرصة التي هيَّأتها له التدابير الإلهية، فكتب لهما من الإسكندرية إلى مصر يُعرِّفهما قضية الأختام التي على الكنائس وقد أغلقوها في وجه الأرثوذكسيين. فاستخدم هذان الكاتبان (واسم أولهما أثناسيوس من الرها، والثاني إسحق من شبرا) نفوذهما، وأرسلا رسلاً إلى الإسكندرية كلَّفاهم بفك الأختام وفتح الكنائس وتسليمها إلى البابا الإسكندري.
الطلعة البهية لبابا الإسكندرية وأخلاقه
يقول كتاب: “تاريخ البطاركة” لابن المقفع، إن هذا الأب كان قديساً، وتبدو نعمة الله ظاهرة على وجهه مثل موسى النبي (خر 34: 29)، حتى أن كل أحد كان لا يتمكن من النظر إلى وجهه ولا محاجر عينيه من كثرة النور الذي عليه؛ وأن الرب كان يشفي الكثيرين من المرضى بدعائه (تأمَّل في كيف توصف المعجزات: أن الرب هو الذي يشفي بدعاء صفيِّه)، وأنه كان بتول النفس والجسد، وأنه كان مسالماً لكل أحد من الناس، وأنه قد شاعت أفعاله وعجائبه حتى بلغت إلى الملك البيزنطي وإلى جميع مَن في قصره حتى أنهم أرسلوا إليه الهدايا من القسطنطينية.
ولكن هذه الصفات التي يصف بها كاتب سيرته والتي نقلها كتاب تاريخ البطاركة، ليست مجرد مديح رخيص بلا سند من حياة هذا البابا وسيرته وأخلاقه، بل إن مواقفه تجاه ما حدث له يُظهر طهارة وعفة نفسه، وهذا يظهر من هذه التجربة الأليمة التي ألَمَّت به كما يلي:
البابا المتجرِّد الفقير أمام سطوة الوالي وتعذيبه له
فقد حدث أن الوالي – في ذلك الوقت – “سعيد بن يزيد” قدم إلى الإسكندرية كعادة الولاة، لكي يأخذ الضرائب المفروضة عليها. ولم يُبلِّغ أحد البابا البطريرك بقدوم الوالي ليخرج للقائه. فسعى قوم أشرار من الخلقيدونيين، وفي مقدِّمتهم ثيئوفانس ابن أخت ثيئودوروس الخلقيدوني (السابق ذِكره)، ووشوا للوالي أن البطريرك أَبَى الاحتفاء به لكثرة تجبُّره وكبريائه وكثرة ماله. فأرسل الوالي بغضب ليُحضر الطوباوي أنبا يوحنا إلى ديوانه وأوقفه أمامه وسأله: “ما سبب غلظ رقبتك وتأخيرك عن الحضور للقائي دون أهل المدينة”؟ فأجابه الطوباوي: “قد عَلِمَ الله أني لم أفعل لغلظ رقبة، ولكن لضعفي ولأني لا يمكنني في كل وقت الخروج من المدينة إلى موضع آخر”. فغضب الأمير وسلَّمه لجنوده ليأسروه إلى أن يقوم بدفع مائة ألف دينار.
وكان أحد هؤلاء الجنود شخص اسمه “سَمَد” قاسي القلب فأخذه إلى منزله. وكان ذلك أول يوم في أسبوع الآلام، وصار يُعذِّبه إلى أن يدفع المال. وكان البابا معه اثنان من رجال الكنيسة الأبرار: آراس القس الأمين على مال البيعة، والشماس كاتبه. فلما قال له الرجل: “أريد منك مائة ألف دينار التي أمر بها الأمير”. أجابه البابا بسكينة وهدوء: “تطلب مني مائة ألف دينار وما معي منها مائة ألف درهم؛ لأن إلهي لم يجعل لي، في شريعته، أن أُبقي معي شيئاً، ولا أقتني مالاً قط لأنه أصل كل شر. فما شئتَ أن تفعل فافعل! جسدي بيدك، وأما نفسي وجسدي معاً فهما بيد سيدي يسوع المسيح”. فلما سمع هذا الرجل ذلك غضب جداً وبدأ في تعذيبه بوضع رجليه في وعاء نحاس ممتلئ جمر نار، إلى أن يتعهد بدفع المال.
ثم إن الله مدبِّر عبيده أنزل في تلك الليلة على زوجة الأمير عبد العزيز أمراً صعباً حتى أنها قلقت وأرسلت أستاذها إلى “سَمَدْ” هذا قائلة له: “احذر أن تفعل سوءًا برجل الله البطريرك الذي سلَّموه لك، لأنه قد أصابني بسببه بلايا عظيمة في هذه الليلة”. فاضطر سَمَد أن يُخلي سبيله اضطراراً هو ورَجُلَيه اللذين كانا معه إلى الغد ليفكر فيما يفعل به بعد ذلك.
وتوجَّه في الصباح إلى الأمير وعرَّفه بما فعل. فقال له الأمير: “إياك أن تمسَّ جسده لأجل ما نالنا في هذه الليلة بسببه، ولكن مهما قدرت عليه – من مال – فخذه منه بلطف، ولكن لا تقربه بسوء، لأن الله قد أظهر لي أنه عبده“.
فعاد سَمَد إلى بيته، وكان هذا يوم ثلاثاء البصخة. فأحضر البابا إلى ديوانه وكلَّمه بكلام كثير وهدَّده تهديداً عظيماً بأن يُلبسه ثياب يهودي ويطوف به المدينة (بمثابة تشهير). فلم يَخَفْ، بل كان يقول له بقوة قلب: “إن لم يُخلِّصني الرب إلهي من يديك، وإلاَّ فما لك قدرة أن تفعل بي شيئاً إلاَّ بأمره”. وساومه هذا الرجل حتى أنزل قيمة المبلغ إلى النصف، خمسين ألف دينار. فقال له البابا: “لا أقول شيئاً لا أقدر عليه. الذي أقدر عليه هو ثيابي التي على جسدي”. (تُرى ماذا كانت ثياب هذا البابا القديس)؟ ثم ساومه الرجل مرة أخرى إلى أن خفَّض المبلغ إلى عشرة آلاف دينار! فبلغ الخبر إلى أراخنة الأقباط بالإسكندرية، وما وصل إليه المبلغ، فطلبوا من البابا أن يقبل بهذا الحد الأدنى على أن يقوموا هم بتدبير المبلغ ويجمعوه من الأساقفة (الذين كان عندهم مال)، ومن الموظفين المستخدمين في الدواوين، فقَبـِلَ البابا. وذهبوا إلى الأمير عبد العزيز وطلبوا منه إحضار البابا ليسمع منه. وكان يوم الخميس الكبير قد حلَّ.
فلما أحضره الأمير، يقول كتاب “تاريخ البطاركة”: رفع نظره إليه ورآه كأنه شِبه ملاك الله. فأمر في الحال أن يُحضِروا له وسادة كبيرة ليجلس عليها (خلافاً للمُتَّبع، حيث كان يقف المستَدْعَى أمام الأمير دون جلوس)، ودار بينه وبين البابا الحديث التالي:
الأمير: أَمَا تعلم أن السلطان لا يُقاوَم؟
البابا: السلطان يُطاع أمره فيما يجب (أي حسب القوانين)، ولكن يُخالَف أمره فيما يُغضب الله، فقد قال ربنا في الإنجيل: “لا تخافوا مِمَّن يقتل الجسد، وليس له سلطان على النفس. ولكن خافوا مِمَّن يقدر أن يُهلك النفس والجسد كليهما”، يعني الله القادر على ذلك وحده.
الأمير: إلهك يحب الصدق والحق.
البابا: إلهي هو الحق كله وليس فيه كذب، بل يُهلك كل مَن ينطق بالكذب.
الأمير: أنت عندي صادق. فمهما دفع النصارى لك بسبب مطالبتي لك، ادْفعه لي، ولا أريد منك غيره.
وقد جرى هذا الحديث بين البابا والوالي في صباح يوم خميس العهد المُسمَّى الخميس الكبير.
فطلب الأراخنة من البابا أن يقبل ذلك، فقَبـِلَ. وأطلقه الأمير بمجد وفرح وسرور وبهجة للأرثوذكسيين، بينما نال أعداء البيعة الغمَّ والخزي. وخرج البابا المغبوط من دار الإمارة راكباً والشعب يُحيطون به وبين يديه، وهو راكبٌ دابَّته، بالقراءة والترتيل حتى دخل إلى الكنيسة، وصلَّى على لقَّان الماء وغسل أرجل الشعب، ثم قدَّس وحمل السرائر المقدسة وقرَّب الشعب، ثم عاد إلى قلايته البطريركية برحمة الله ومعونته. أما المخالفون الذين وَشَوْا به، فقد نالهم الخزي والغمّ الكثير أكثر من الكل، ولا سيما ثيئوفانس الرئيس على الخلقيدونيين في مريوط، حيث قبض عليه الأمير بسرعة وسلَّمه إلى الكاتب، الذي أرسله إلى السجن ثم قتله بعد عذاب شديد.
والله صانع العجائب وحده جعل للأب البطريرك قبولاً ونعمة عند الأمير، إذ أمر الرؤساء في جميع المدينة أن لا يُخاطب أحدٌ الأب البطريرك إلاَّ بالخطاب الحسن، ولا يذكر فيه كلمة سوء، ولا يعترضه أحد فيما يريده ولا في خروج ولا في دخول في المدينة (حيث كان الخلقيدونيون يُنادون بقتل البطريرك السابق إذا وجدوه، والجند التابعون من الغزاة الجدد كانوا يُضايقونه).
– وفعلاً قام الشعب وعلى رأسهم الأراخنة والكُتَّاب المؤمنون في دواوين الحكومة وجميع الشعب الأرثوذكسي، حتى أوفى البابا للأمير بكل ما طالبه به.
– وهنا يظهر التقليد القبطي في طريقة مواجهة المحن والأزمات التي تواجه الكنيسة، وذلك بالشركة الكاملة والمشورة المتبادلة بين الإكليروس والأراخنة والشعب، وكان الإكليروس ينصت لمشورات ذوي المشورة الحسنة من الأراخنة وذوي المناصب في الديوان الحكومي، وكان الجميع يتعاونون معاً إلى أن تَعبُر الكنيسة كلها المحنة والأزمة بسلام وحكمة ونعمة.
بقية أعمال البابا يوحنا، ومساهمته في تخفيف ويلات الغلاء
– وأكمل الأقباط غيرتهم وساعدوا البابا في تكميل بناء كنيسة الشهيد الجليل الإنجيلي مار مرقس بالإسكندرية، حيث أكملها في ثلاث سنين وزيَّنها بكل زينة، واشترى لها أوقافاً في مصر ومريوط والإسكندرية.
– ثم اشترى طاحوناً للقمح ومعصرة للزيت ومنازل أوقفها لبيعة القديس مار مرقس، وباركه الرب من كل وجه في أعماله وكلامه.
– ويقول كتاب “تاريخ البطاركة” إن الأرثوذكسيين استطاعوا أن يُعِيدوا الكثير من الخلقيدونيين، واشترك الجميع معاً في التناول من سرِّ الإفخارستيا.
وكانت نعمة المسيح تُعين البابا وتقوِّيه.
– وسأل الرب أن يُظهِرَ له مَنْ يصلح لأن يجلس بعده على كرسي مار مرقس. فعَلِمَ عن أخ عالم فاضل مشتمل بكل فضيلة، كان راهباً عابداً بدير القديس أنبا مقار، اسمه إسحق. وكان تلميذاً روحياً لأحد تلاميذ القديس يؤانس قمص شيهيت، وهو الأنبا زخارياس الأسقف الملتحف بالروح القدس، كما يوصف في كتب التاريخ؛ وذلك لأنه جمع بين خدمته الأسقفية والتواضع الجمّ. وكان الراهب إسحق مجتهداً في الأعمال الإلهية، وفي الكتابة والنَّسْخ، وهي من مستلزمات الأعمال الكنسية في القلاية البطريركية. ولما اختبره البابا يوحنا واطمأن إليه، عيَّنه سكرتيراً خاصاً له، وأقامه مُدبِّراً (إيغومانساً أي قمصًّا) معه لشئون الكنيسة.
– ثم حدث غلاء في أيام البابا القديس يوحنا استمر ثلاث سنوات. وأعان الله هذا الأب على القيام لنجدة الفقراء وضحايا هذا الغلاء. فأمر أن تُدار عجلات الطاحون ليل نهار ولا تبطل أبداً، بل تُخرج طحينها للمحتاجين. وكان يُرسل لهم قوتهم مرتين في كل أسبوع، ويدفع لهم معونات مالية من صدقات وتقدمات المؤمنين القادرين، حتى أن كاتب سيرته يقول: “إن عينه كانت ملأى (أي لم يكن يطمع في مال أحد)، وكان كثير الصدقة، ويدفع صدقات كثيرة جداً مثل البحر، وما كان يتوانى عن أداء أي عمل يُرضي الله”.
مرضه، ثم نياحته
– وقد سمح الرب أن يُصاب البابا يوحنا بمرض النقرس في رجليه، فتعذَّب كثيراً منه. وقد حدث أن كان البابا في حلوان، حيث كان الوالي عبد العزيز يستشفي في مياه حلوان الكبريتية. ونزل الوالي من حلوان إلى مصر بصحبة البابا الإسكندري. ولم يكد الوالي يصل إلى داره حتى بلغه أن الألم اشتدَّ بالأنبا يوحنا الثالث، فبعث برجاله يستفسرون عنه. فلما عَلِمَ أنه يريد السفر إلى الإسكندرية، أمر رجاله بأن يعدّوا له مركباً يوصله إلى الإسكندرية، وكان كاتب سيرة البابا يوحنا معه. فلما وصل إلى الإسكندرية، نما الخبر إلى جماعة الأساقفة أنه متوعك، فحضروا إليه ومن بينهم الأنبا غريغوريوس أسقف القيس، والأنبا يوحنا أسقف نقيوس، والأنبا يعقوب أسقف أرواط، والأنبا يوحنا أسقف سخا، والأنبا ثيئودور أسقف مليدس، وجماعة من الشعب. وكانوا كلهم حزانى لما رأوا راعيهم يُدعَى من الأرض إلى السماء، وعلى الأخص أنه لم يَقُم في جيلهم من يُشبهه في أفعاله. ثم وقف الجميع وحملوه ودخلوا به إلى المذبح الكبير بكنيسة مار مرقس، فصلَّى صلاة الشكر كلها، ثم غاب عن الوعي، فحملوه ودخلوا به إلى مخدعه حيث أسلم الروح بين يدي المسيح بمجد وكرامة. وكان ذلك في أول كيهك من عام 681م.
وكانت سنو حبريته ثماني سنين وشهراً واحداً. ودفنوا جثمانه الطاهر في المكان الذي بناه لنفسه قبل نياحته في كنيسة مار مرقس الرسول بقراءات وتسابيح صاعدة إلى الله.
بركة صلواته ورائحة سيرته الزكية المفعمة بالفضائل الإنجيلية تكون معنا ومع الكنيسة كلها على مدى الدهور
امين