“أين شوكتك يا موت”؟
الفرح هو أول وآخر رسالة جاء بها الإنجيل: “ها أنا أُبشِّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب” (لو 2: 10)، “فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم” (لو 24: 52)؛ فبدونه لا نستطيع أن نفهم المسيحية، وبدونه لا تقوم للكنيسة قائمة. فهو أول سمات التلمذة للمسيح، ولكن: هل يمكن تحقيق الفرح دون اجتياز الموت؟ أو بكلمات أخرى: هل نحن نحيا لنموت، أم نموت لنحيا؟
في الحقيقة، ليس الموت هو فقط النهاية المخيفة لحياتنا، ولا هو الحد النهائي لتلك الحياة التي نحياها؛ وإنما هو أيضاً “وصف لحالتنا الراهنة”. فنحن الآن نعيش الموت، فكل ثانية نعيشها ثم تموت وتُستَبْدَل بأخرى تموت هي أيضاً، وهكذا. فإذا تأملنا بندول الساعة نجد أن الموت يُسارِع ويبتلع الزمن الحاضر، ويُعلِن في كل حركة له أن نهايتي في هذه الحياة تقترب دونما توقُّف.
فالآن، قد ماتت فيَّ مراحل متعددة؛ فقد مات فيَّ الرضيع، والطفل، والفتى، والشاب. وسيُدركني الموت في مرحلة البلوغ، ثم في الشيخوخة، إلى أن أدخل في الموت الجسدي التام في نهاية حياتي الأرضية. فكل علامة من علامات تقدُّم العمر تظهر عليَّ، تُعلِن أن الموت بدأ يُحْكِم قبضته عليَّ.
فإن كان الموت هو “فقدان الحياة”، فنحن بهذا المعنى نموت في كل لحظة، إذ كل ما تبنيه الحياة يقضي الموت عليه، كل شهيق للحياة يتبعه زفير للموت، وهذه هي طبيعة كل ما في الحياة. لذلك نستطيع أن نقول إن الحياة والموت هما شيء واحد تماماً، كما أن عمليتيّ الشهيق والزفير هما عملية واحدة تُسمَّى التنفُّس.
والإنسان، أيـًّا كان، وهو غارق في هذا الموات، يتساءل عن وعي أو عن غير وعي:
كيف سأخرج من هذا الجسد؟
وهل سأحظى بالحرية؟
وهذان السؤالان كثيراً ما يُسبِّبان لنا شيئاً من الضيق الذي قد يصل إلى حدِّ الارتباك، كما أنهما يكونان في حالات كثيرة دافعاً للكثير من أفعالنا. وسبب ذلك أن الإنسان يوجد بداخله صوت خفي يصرخ دائماً: “لا أريد أن أموت”. وعلى هذه الصرخة القديمة قِدَم النفس البشرية، تضع المسيحية مبادئها جديدةً لكي تُسْكِت بها هذه الصرخة. لذلك فالإجابة الوحيدة لتساؤلاتنا عن الموت هي أن: “المسيح قام من بين الأموات، بالموت داس الموت، والذين في القبور أنعم لهم بالحياة الأبدية”.
فالمسيح القائم من بين الأموات هو جوهر كل حقيقة، وهو مصدر الحياة لكل إنسان، فهو “الأول والآخِر” (رؤ 1: 17)، وهو الوحيد الذي له “مفاتيح الهاوية والموت” (رؤ 1: 18)، وبعيداً عن هذه الحقيقة لا يوجد لا في التاريخ ولا في حياتنا الشخصية سوى الفراغ.
فالله قد خلق كل الأشياء بكلمته: “قال… فكان” (تك 1)، لذلك فكل ما يحيط بي هو “كلمة الله موجَّهة إليَّ”، أي أن كل الأشياء تحمل رسالة من الله إليَّ. فهو يُخاطبني من خلال كل شيء، فكلمته الخالقة حيَّة وكائنة في كل ما هو كائن. لذلك فنحن لسنا في عالم مادي محض، إذ أن كل ما حولنا من أشياء مادية هي في الواقع مُوَصِّلاَت نستطيع بواسطتها أن نُقَوِّي علاقتنا بمصدرها أي بـ “كلمة الله”. أما لو كان موقفنا بخلاف ذلك، فإننا حتماً سنبتعد بشكل كبير عن مصدر الحب الرئيسي الذي خلق كل الأشياء من أجلنا، وحتماً ستصير علاقتنا بكل ما في هذا العالم حاملة بشكلٍ أو بآخر رائحة الموت، علاوة على الضيق والكراهية والعنف بكل صُوَره، وسيتحوَّل كل جمال في الطبيعة إلى جمال ظاهري زائل. وحينئذ سنفقد جوهر الماديات وسيصبح تركيزنا على نفعها الاستهلاكي فقط!!
الهدف من وجود الكون المادي
إن الله عندما خلق الكون أراده أن يكون مكاناً يلتقي فيه مع الإنسان بالحب. فكل شيء – دون استثناء – هو عطية لي من ذاك الذي أحبني حباً كاملاً. كل شيء بالنسبة لي هو مساحة للالتقاء مع الله، وفرصة لإظهار الحب المتبادَل، أو كما يقول أحد الكُتَّاب الروحيين: “كل مساحة منظورة لها عمق غير منظور يبلغ إلى أن يكون سراً”. لذلك فليس هناك ما هو خارج عني، الكلُّ لي معه علاقة. فبدلاً من أن نصبغ صفة المادية والجمود والموت على ما في هذا العالم، علينا أن نسكب الحب على كل ما يُقابلنا ونلده من جديد من خلال النظر الروحاني العميق!! وهنا فقط يتحقَّق “الهدف” الذي خُلِقنا له، وهو “الدخول في شركة فرح مع الله”. والكتاب المقدس من أول آية في سفر التكوين إلى آخر آية في سفر الرؤيا، ينمو ويتقدَّم بنا لكي يُوصِّلنا إلى هذا “الهدف”. فالله على موعد دائم ومتجدِّد مع خليقته، وصوته يتمثَّل في كل شيء: “فلنحب الكل، إذن، لندخل في عهد الحب”.
الإحساس بالله هو العبور الحقيقي
نلاحِظ أنه منذ أن دخل الإنسان في عهد مع الله وهو في حالة “عبور”، عبور للموت، وليس تفادياً له. فنحن في هذه الدنيا في حالة تدريب مستمر على تجاوز الموت، أي أن الحياة في المسيح تجعلنا نتخطَّى الموت ونكسر شوكته، ونحن ما زلنا أحياء. على أن تجاوز الموت هذا ليس فيه أية شُبهة للانفصال عن العالم؛ بل هو يعني الفهم الصحيح له من خلال النظر إليه من منظار القيامة.
والقلب في هذه الحالة يعمل عمله من أجل التعرُّف على المشاعر الإلهية، أو بالأحرى استعادة “الإحساس” بالحرارة الإلهية، الأمر الذي ينتج عنه “عبور” أي “تحوُّل في السلوك الإنساني على جميع مستوياته”. وعن هذا “الإحساس” يقول القديس ثيئوفان الناسك:
[فيه يكمن بداية الدِّين. وهو أمر ذو أهمية كبيرة في الحياة الروحية… فمَن يملك هذا الإحساس يستطيع أن يعيش داخلياً].
وكذلك يقول القديس كليمندس الإسكندري عن نفس هذا الموضوع:
[نستطيع أن نشعر مَن يكون الله، إذا جاهدنا بكل حواسنا لنصل إلى حقيقة كل شيء، ولا نترك شيئاً حتى نَسْبُر أغواره، فوراء كل شيء سنكتشف قوة المسيح. وفي هذه الحالة فإنه سيُنمينا بقداسته في اتجاه لانهائيته حتى نلمح الكُلِّي القدرة].
لذلك علينا أن نتوقَّف ونُعلن أن الله هو مركز كل شيء. فكل ما ألمسه وكل ما يلمسني هو من الله. والموقف الذي يجب أن أكون عليه هو أن أُوَثـِّق علاقاتي – بالمحبة – بكل ما يُقابلني أو يعترضني، وحتى بكل ما يُعاديني؛ لأنني إذا أبغضت الأمور المضادة لي، فإنني سأدخل في حالة ازدواجية (حب وكراهية) يكون عندها التقابُل مع الله غير ممكن. “فإذا أحببت الكل دون تدخُّل سلبي من العقل، فإنني سأُدرك ذاك الذي وراء الكل”، وذلك كما يقول العلاَّمة كليمندس الإسكندري.
ولذلك أعطانا المسيح مفتاحاً قوياً يَعْبُر بنا الموت ويُدْخِلنا في القيامة، وهو “أحبوا أعداءكم… باركوا لاعنيكم” (لو 6: 27و28). فإن استطعنا أن نحب أعداءنا، فسنشعر حينئذٍ بمعنى الانتقال من الموت إلى الحياة!! فمحبتنا لِمَا هو بخلاف أهوائنا ستكشف لنا أعماقاً وأعماقاً في المسيح يسوع.
– وهذا هو العبور الذي يمكن أن أعيشه الآن.
– هذه هي القيامة التي يجب أن أختبرها هنا.
– هذه هي الحقيقة التي يكشفها لنا الكتاب المقدس عَبْرَ كلماته.
لذلك نستطيع أن نقول إن كلمات الكتاب المقدس كلها، كلمات “فصحية” أي كلمات “عبور”، تنقلنا من الموت الكريه الذي للـ “أنا” إلى القيامة المُفرحة التي لـ “المسيح”.
مفتاح التاريخ
منذ بداية الخليقة وحتى الآن، لا نجد معنى “لأي شيء” إلاَّ في ضوء “قيامة المسيح” التي فيها وحدها “قد أُكْمِل” كل شيء.
وأول عهد لله مع الإنسان هو الخليقة نفسها، إذ قد عرفنا إلى أي حدٍّ تمثِّل هذه الخليقة مكان التقاء الإنسان بالله، وذلك إذا كان لنا نظر داخلي عميق لجوهر الخليقة. ونُلاحِظ أن “نوح” هو المثال لذلك الإنسان، فعلامة عهده مع الله وانتصاره على الموت كانت “قوس قزح” الموجود في السماء. فهذه الظاهرة الكونية تشير – في ضوء القيامة – إلى أن الإيمان بالله – الذي أنقذ الخليقة من الموت والهلاك وأخرجها إلى النجاة – سيعبُر بنا موت هذا العالم ويوصِّلنا إلى العهد الأبدي الذي سيكون في السماء أيضاً.
أما ثاني مرحلة من مراحل العهد، فكانت بين “الله وإبراهيم”. وهنا لا ننسى سؤال إسحق الشهير لأبيه: “يا أبي… هوذا النار والحطب، ولكن أين الخروف للمحرقة” (تك 22: 7)؟ هذا السؤال الذي أُجيب عنه بعد حوالي ثمانية عشر قرناً، وعلى لسان يوحنا المعمدان الذي قال عندما رأى يسوع: “هوذا حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو 1: 29). وبالتأكيد فإن سؤال إسحق لأبيه قد أوقف قلب أبيه عن النبض، ولكن إيمان إبراهيم اللانهائي الذي أجاب بعبارة: “الله يرى له” (تك 22: 8)، كان يرى نور القيامة حتى ولو لم يكن يُدرك معناها.
والمرحلة التي تلي ذلك هي: مرحلة العهد مع موسى والوعد الخلاصي بالعبور. ففي هذه المرحلة، عَبَرَ الشعب كله من عبودية فرعون مصر إلى حرية مَلِك السماء والأرض. ونلاحِظ أن هذا العبور أيضاً لا يُفهَم على أنه تحريرٌ كاملٌ إلاَّ في ضوء قيامة المسيح. فالمسيح نفسه (موسى الجديد) صار “أرض الأحياء”، لأنه لَمَّ شتات الإنسان وجعله شعباً واحداً، جسداً واحداً، حيث هو الرأس. كذلك فإن وجه موسى الذي أضاء بنور إلهي حينما تقابل مع الله على الجبل، لا يُفهَم إلاَّ في ضوء حادثة التجلِّي، حيث موسى إلى جوار المسيح، وحيث بلغ الإعلان الإلهي إلى ملئه (خر 34: 29، 2كو 3: 7، مت 17: 1-13).
وهكذا كل أحداث الكتاب المقدس تكشف لنا من جيل إلى جيل الخطة الإلهية العجيبة نحو الإنسان، وهي “إعطاء حياة أفضل للإنسان”؛ وبما أن “قيامة المسيح” هي النبع الوحيد لهذه العطية، إذن، فنحن نعيش كخليقة جديدة في قلب هذا العالم، ومصدر حياتنا الجديدة (القيامة) يكشف لنا جوهر أحداث هذا العالم، أو بمعنى آخر: القيامة هي الحدث الأصلي الذي عليه يُبنى ويُفسَّّر كل ما في الحياة.
والعامل الفعَّال الذي يساعدنا على الإحساس بقوة القيامة في كل ما يحيط بنا هو الروح القدس، إذ أنه يفتح أمامنا باستمرار سرَّ القيامة المُحرِّك لهذا الكون. فبالروح القدس ينكشف لنا أنَّ لا أجسادنا فقط، بل كل شيء، هو هيكل لله (لأنه خُلِق بكلمته). وبدون عمل الروح القدس تبدو لنا الأحداث والمواقف والكنيسة، بل والكون كله، مجرد “عبوسة” وعدم يتبعه عدم، ذلك لأن كل تغيير باتجاه الحق لا يمكن تحقيقه ما دام هناك إنكار لـ “روح الحق”.
ولذلك فهناك من المؤمنين مَن لا يمتلكون الخبرة التي بها يخترقون ظلمات هذا العالم ليصلوا إلى نور القيامة. فنحن الذين أُطلِق علينا “يا قليلي الإيمان” (مت 6: 30؛ 8: 26؛ 16: 8)، فيما يختص بعمل الروح القدس، إذ نسارع دائماً بتحليل الأحداث على خلفيات نفسية أو اجتماعية أو سياسية أو … إلخ، ونتناسى خلفية القيامة المنيرة التي يُبنى عليها كل بناء أيًّا كان نوعه: “أما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يُرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلَّم به، ويُخبركم بأمور آتية” (يو 16: 13). ولذا فكل ما نعمله ينحل سريعاً، لأنه مبني على المنطق البشري، وليس على الحق المسيحي، ونكون قد توقَّفنا عن أن نكون شهوداً للقيامة بنكراننا لعمل الروح القدس، وهذا هو الموت بعينه.
هدفنا الحقيقي
بدون فعل القيامة في حياتنا سنجد كل شيء قد اظلَمَّ، وعلى هذا تأتي الترجمة الأدبية لكلمة “الخطية” في اللغة اليونانية بـ “فقدان الهدف”. ولتوضيح الهدف من حياتنا يُخبرنا القديس بولس قائلاً: “وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام” (2كو 5: 15). وهذه الآية هي خير إجابة على سؤالٍ يختص بالهدف من حياتنا. فأنْ نعيش لأنفسنا سيُدركنا الموت، أما أن نعيش للمسيح القائم، فالحياة التي نحياها ستكون لله (راجع رو 6: 10).
والمقصود بالحياة من أجل المسيح، ليس فقط الحياة على المستوى الأخلاقي أو حتى حياة التقوى والفضيلة، وإنما المقصود هو التغيُّر الدائم باتجاه الخليقة الجديدة، حيث عمل المعمودية والروح القدس يكون متجسِّداً في حياتنا، فهو يمتد بنا إلى موت وقيامة المسيح بطريقة عملية. أما الإفخارستيا ففيها تحقيق لموت وقيامة المسيح في حياتنا ولكن بصورة سريَّة.
وباختصار، فكل نور القيامة يتمثَّل في كلمات المسيح نفسه في إنجيل يوحنا الأصحاح الخامس عشر: “أنا الكرمة الحقيقية”.
القيامة والترابُط الاجتماعي
إن السمو فوق مستوى الماديات يبدأ بتغيير “الإنسان الداخلي”، حيث توضع الفأس على العتيق، فينهدم صنم الذات الكاذب وكل ما له. وهنا فإن روح القائم من بين الأموات سيُلهمنا بحقيقة الغِنَى الذي فينا، ويفتح أمام أرواحنا مجالات النمو الروحي – وأهمها مجال الانفتاح على الآخر – بصورة سليمة. وعند هذا الحد لن نجد أبداً ما يصيبنا باليأس، لأننا سنكون في قلب النبع الدائم الذي للفرح: وهو “يسوع المسيح”.
فالقيامة هي الرباط الحقيقي لتضامننا مع المجتمع، حتى لو كان متعسِّراً في سيره. فشركتنا مع المسيح القائم ستُعطينا أن نحس – بقوة – بالآخر، وبالتالي سنعرف معها كيف نعيش الإنجيل في المجتمع الذي نعيش فيه أيـًّا كان!! وهذا ما سيجعلنا أحراراً في وسط عبودية العالم.
فتلميذ المسيح يعي بقلبه الجديد كل ما هو “لاإنساني” فيتجنَّبه، وهذه هي أفضل صورة للتفاعُل مع المجتمع. كما أن تلميذ المسيح، ابن القيامة، يستشعر كل ما هو مائت في العمل والمال والتجارة و… إلخ، فيتركه ويستثمر ما هو حي في ذلك كله، فينتفع هو وينتفع المجتمع أيضاً؛ وبذلك نكون غير منعزلين عن العالم، بل مُشاركين ومُثمرين.
كما أنه إن عشنا للقيامة، فحين تتكشَّف لنا عيوب المجتمع، فلأننا نحيا بالقيامة، ستنفتح أمامنا طاقات من الأمل والرجاء وستنسكب الحياة منا على كل موات فيه. فوجودنا هو وجود للحب حتى للأعداء، كما أنه وجود أيضاً من أجل العمل على تصحيح ما أَفْسَدَتْه النظرة المادية البحتة للأشياء.
صليب القيامة، وليس صليب الموت
من الواضح أن قاعدة جميع المحاربات الروحية التي يخوضها المؤمن هي “الصليب”، لأنه الطريق الوحيد المؤدِّي إلى النصرة. فلن نصل إلى الإمساك بذواتنا وتقييم ما في الحياة من زيف إلاَّ إذا بدأنا بحرب شديدة ودائمة على النفس بغرض استئصال ما فيها من كبرياء، وهنا ستتفجَّر فينا وفيما حولنا قوة الحياة: “إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (مت 16: 24). وضمير الغائب هنا في كلمة “صليبه” يوضِّح أن الصليب له عمق اختباري يختلف من شخص لآخر، ذلك لأن شهوات النفس تختلف وتتنوَّع فيما بين الأشخاص.
وشهوات النفس، سواء المخفية أو المُعْلَنة، دائماً ما تتنكَّر للوصايا الإلهية لكي تحقِّق للنفس السعادة الزائفة، فهي تُعارِض بطريقة سرية كل حق، لكي تُبرِّر كبريائي الرافض له. لذلك فمَن “يحمل صليبه” أو بكلمات أخرى “الذي يقبل طواعيةً وكليَّةً ما هو غير مقبول هنا والآن”، سيَعْبُر الموت إلى القيامة. فالصليب قائم هنا والآن، وعليَّ في هذه اللحظة أن أحمله بحب غير مشروط، فأصلب ذاتي الآن لكي تحيا فيَّ قوة القيامة والفرح الدائم الذي لا يتأثـَّر بظروف خارجية.
فالمسيح الذي كشف لنا هذه الأسرار العجيبة – التي للصليب والقيامة – قد وهبنا أن نحب الألم ونقرر بإرادتنا، مثله تماماً، أن نموت؛ وذلك إذا ما نظرنا إلى كل شيء على أنه عطية منه، مستلهمين من محبته أن الألم يتضمن سعادة عُظمى، لأنه مفتاح الأبدية السعيدة. فحيث توجد “نعم” للألم وللموت، توجد الحياة. وحيث “الرِّضا” بظلمة القبر، سنوجد في حجال الملك. وحيث الشركة الكاملة مع سرِّ الصليب، فسنجد الفرح الحقيقي الذي للقيامة!! فالمسيح لم يتراجع عن الصليب! لماذا؟ لأنه عانق الألم والموت كي يكشف لنا ما فيهما من نور وفرح مخفي بسبب قيامته من بين الأموات.
كيف يكون الموت مُفرحاً؟
إن الحب أقوى كثيراً من كل ما هو ضده، والمسيح بحبه لنا جعل من الموت الخطوة الأولى للفرح وللحياة. فبالمسيح تحوَّل الموت عن أصله ولم يَعُد له علاقة بمفهومه السابق البغيض. لذلك نجد أن أحد القديسين يدعو الموت بـ “أخي الموت”، والقديس ساروفيم ساروفسكي نجده في نهاية حياته ينتظر الموت قائلاً: “إنه الحبور الأعظم الذي يقترب مني”، ونحن أحياناً نشاهد أن بعض المؤمنين حينما ينتقلون ويُوضعون في نعوشهم يبدون كما لو كانوا في عُرسٍ بهي. وذلك كله لأن الإنسان الجديد القائم من الموت أدرك متى يُعانق الموت بالحب، ومتى يحب وهو قابل في نفسه حُكْم الموت.
فالقديسون يعرفون جيداً ما يعنيه التقليد بتعبير “الموت المُفرح”، لأنهم في الحقيقة كانوا يتدربون على الموت بالإماتة طوال حياتهم. ولذلك نجد القديس “هيزيخيوس” يقول عن تذكُّر الموت:
[فلنتذكَّر الموت دونما توقُّف، لأن هذا التذكار سيمنع عني كل الآلام التي ليس لها فائدة، وسيحفظ روحي ويمنحني الصلاة الدائمة، وسيحفظ جسدي منتبهاً، وسيهبني أن أكره الخطية. والحقيقة إن كل فضيلة إنما تنبع من هذا التذكار. فلنُحافظ عليه، إذن، بقدر استطاعتنا].
على أن هذه الممارسة الدائمة للموت هي نفسها ممارسة للحياة، ولكن في ملئها، لأنها ممارسة للقيامة من على الأرض. “فالذي لا يعيش مع الموت كل الأيام لا يعيش أبداً”، وهذا ما يقوله أحد الحكماء المعاصرين، وهو Graf Dûrchheim، والذي يقول أيضاً: “لا يعيش حقاً إلاَّ الذي يعرف حقاً كيف يموت”.
فالموت، إذن، ليس مُرعباً، ولا باعثاً على اليأس، إلاَّ لأولئك الذين لا يزالون مسجونين في سجن الذات، المربوطين بالأمور الجسدية. فالله الكلِّي الصلاح قد سمح بالموت، لذلك لا يمكن أن يكون الموت ردياً. فالله لم يظلم الدودة وهي في شرنقتها، بل هو يُعدُّها لأن تكون فراشة جميلة، وهكذا أيضاً جعل لنا بالموت قيامة وحياة أفضل.
فلتكن القيامة، إذن، هي النافذة التي ننظر منها إلى كل شيء، وحينئذٍ سنكتشف السر الحقيقي لحياتنا، لأنها ستكون حياة قيامة، حيث الفرح كائن في كل ما حولنا، فسنعيش في بحر من الحب يجرفنا إلى السماء، وسيكون “العبور” هو سر شبابنا الدائم في هذا العالم