سمات يسوع وختان البشر
|
“أما أنا فحاشى لي أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح”
لم يختبر أحدٌ الفارق بين الحياة بحسب النواميس البشرية وبين الحياة بحسب النعمة الإلهية كما اختبره بولس الرسول. بولس الذي تربّى على دين آبائه (شرائعهم) فجأة، يهبه الله على أبواب دمشق الحرية من هذه النواميس الدينية ويعطيه خبرة الدين بالحق والروح. اكتشف بولس من تلك اللحظة على أبواب دمشق أن العلاقة بين الله والإنسان هي الدين، وليس الدينُ الشرائعَ التي جمّعها البشر فصارت أثقالاً لا يمسونها هم ولا بإصبع.
طالما كان الإنسان كانت هناك “علامات” خارجية طبيعية أو اصطلاحية ترافق معاني حياته وتشير إليها. ثم أضاف الإنسان في ذكرى الأحداث الكبرى من حياته طقوساً لأعياد تلك الذكريات، وهذه الطقوس ملآنة بالرموز والعلامات التي تريد أن تعيدنا بالذاكرة إلى قوة تلك الأحداث وتاريخها، وتعطي قواماً للحياة الجماعية وتجعل المتفرّقين شعباً واحداً.
ومن أبسط هذه العلامات الخارجية مثلاً، السواد علامة الحداد، والأبيض علامة الفرح. ولكن لا يفيد الأسود في أيام الحزن إذا كان الإنسان لا يملك روحاً من الانكسار أو إذا كان يحيا في اللهو والسهو… ولا يفيد الأبيض كتعبير حين يغيب الفرح وهو الجوهر.
هكذا الله، في العهد القديم منذ أيام إبراهيم، طلب من الشعب أن يُختن كل ذكر في اليوم الثامن من ولادته “علامة” لانتمائه إلى شعب الله وصورة للعهد القائم بين الله وشعبه. وصار الختان طقساً كالمعمودية لدينا، بل كان صورتها السابقة لها.
لكن هذه العلامة- أو الطقس صار غاية بدل وسيلة، والمعنى بدل التعبير عنه. حتى أن كثيرين اقتنعوا بأنه يكفيهم الختان الجسدي ليتمتعوا بالوعود. لذلك لم يهدأ الأنبياء، وأوّلهم إرميا عن التذكير أن الختان هو رمز لحقيقة روحية أعمق، فهو “إزالة القلفة -الوثنية- من القلب” (4، 4). و”الختان في الجسد” هو علامة “ختم على القلب”، فهو محبة الربّ: “ويختن الرب إلهك قلبك… لتحب الربّ إلهك… فتحيا” (تنثنية 30، 6).
فهناك الرموز وهناك الأمور، هناك التقارير وهناك الحقائق. فلا تفيد الأولى حين لا تقود للثانية. لكن الثانية تقوم دون الأولى.
في زمن بولس الرسول والبشارة، كان الختان عند كثيرين هو “انتماء” بمعنى التمييز. وضع الختان “ليفرز” الأبناء إلى شعب الله، ولكن العلامة “تفرز” الناس ولا تفرز بين الناس. لقد هبَّ الروح في أنطاكية يوماً وقال الروح للتلاميذ المجتمعين هناك “افرزوا” لي بولس وبرنابا. وهذا لا يعني أبداً أنه أخرج بولس وبرنابا من جماعة الرسل، على العكس يعني أنه حمّل بولس وبرنابا رسالة خاصة. فالعلامة عندما تفرز إنساناً تكرّسه ولا تمايزه. فهي تعطيه موهبة خدمة للتكريس وليس صفة تفصله عن الآخرين. لذلك لا تكفي “العلامة” عندما لا تظهر “الخدمة”. لقد أعطي الختان حتى نتكرّس للربّ ونحبّه. فلا فائدة منه إذا غابت محبة الرب. العلامات هي وسائل طبيعية واصطلاحية تربينا على التكريس للرب وخدمته. فهذه الأخيرة هي الغاية والاصطلاحات هي الوسيلة.
فإذا ما قزّمنا الدين إلى الطقس وإذا حصرنا الحقيقة بالرمز نكون قد جعلنا “علامات” ذلك سبب للفرز بين الناس في أشكال شبه عنصريات ولا نكون قد فرزنا أحداً للخدمة.
ولقد أخذ المسيحيون الصليب “علامة” ورمزاً للحياة المسيحية كمشاركة في حياة المسيح. فإذا ما غابت شركتنا بحياة المسيح وآلامه ومسؤوليتنا تجاه ذلك لا فائدة عندها من حمل الصليب ورفعه أو رسمه أو تعليقه على الجدران، إذ نكون قد حوّلناه إلى صورة ميّتة لا فعل لها، لا سمح الله.
كل موهبة أو علامة تُعطى لأحد منا ليست غاية ولا ميزة تمايزنا عن الآخرين. وإنما الرمز هو الإشارة التي تدل إلى نوع الخدمة في الكنيسة.
كما الختان في العهد القديم (علامة فرز) كذلك هناك اليوم لدينا في حياتنا الكنسية هويات وانتماءات عديدة. فالبعض يختنون خدمتهم “بعضويات” لمؤسسة أو هيئة ما! وآخرون يملكون حقوق انتخابات في جمعياتنا، وآخرون لديهم “انتساب” إلى أخويات أو مؤسسات كنسية… وتكثر لدينا الأسماء والهويات وهذه كلها وسواها ما هي إلا لون من ألوان “الختان” الذي وجد ليفرز إلى الخدمة وليس ليفرزنا عن سوانا. فالختان الحقيقي الوحيد الذي تهبه الكنيسة لأعضائها هو “ختم الروح القدس” بالميرون المقدس يوم المعمودية. هذا “الختم- الختان الروحي” هو الذي يجعل الكنيسة واحدة بمواهب الروح القدس الواحد المتعددة. هذا “الختان- الختم” هو الوحيد الحقيقي الذي يجعل جسد المسيح واحداً لرأسه الوحيد. وكل الأختام والعضويات و النَسَبيات هي صور مشوهة أو ظلال وليست حقائقَ. وإذا كان – تدبيرياً- لا بد من وجودها هنا أو هناك، فلكي تكون حقيقية وليست مزيفة، مفيدة غير مضّرة، كنسية غير “تحزّبية”. عليها أن تكون شبه رسوم لذلك الختم الوحيد، أو بكلمة أخرى أن تكون امتداداً له وليس تعويضاً عنه أو استبدالاً له. فلا تعارضه ولا تتفوق عليه.
كانت جمعياتنا وأخوياتنا وهيئاتنا والانتساب إليها أساليباً لتفعيل حبنا للكنيسة وخدمتها لكن احتمال الخطأ موجود دائماً، حين نسخّر الكنيسة لنخدم حزبيات لنا في هيئاتنا وأخوياتنا. لذلك السهر مطلوب دائماً مادام الخطر ممكن.
وهذا ما عانى منه بولس الرسول مع بني أمّته أيام رسالته. لأنهم كانوا قد جعلوا الختان عنصرية وليس “علامة”. وصار الختان يخلص وليس العهد. صار الانتماء هو المطلوب وليس روح الدين. هكذا نحن أيضاً مرات عديدة نعاني في أطر النشاط الكنسي حين نجد أحياناً أن الفخر هو في “تكثير الأعضاء” وليس في حقيقة الخدمة؛ وحين تحل العضوية في هيئة محل ختم المعمودية، حاشى! أو حين يشعر أحدنا “بانتسابه” إلى هيئة وينسى التزامه بوعود المعمودية÷ أو حين “يفتخر”، كما قال بولس: “بأجسادكم” أي “بالانتساب” إلى هذه الهيئة أو تلك وينسى أنها أداة تعبير عن خدمة معينة نتجت عن ختم المعمودية، ليس إلاّ.
هناك صدق داخلي وعمق روحي يجب أن يفوق على الرتبة الخارجية، وذلك في ممارسة كل طقس أو نشاط أو عمل في أخويات وهيئات. وهناك ضرورة لتخطي “التمييزات” العنصرية كالتي وقع فيها الشعب قديماً بشأن الختان.
عندما يكون “المسيح هو كل شيء وفي كل شيء” (كولوسي3، 11) عندها تدّل الرموز تماماً على حقائقها، وتقود العلامات إلى مدلولاتها. الختان والعضويات وبطاقات الانتساب والألقاب وسواها… “كلها صنع يد بشرية”. لكن الختان الروحي الحقيقي والوحيد هو المعني بالنعمة الإلهية يوم المعمودية.
“لأنه بيسوع المسيح ليس الختان (أو العضويات) بشيء ولا القلف بل الخليقة الجديدة”، يقول بولس في رسالته اليوم. وهذا هو “قانونه” أي “النظام الداخلي” للحياة في الكنيسة بحسب بولس الرسول.
“فلا يجلب أحدٌ أتعاباً فيما بعد” ناشئة عن تمزيق لهذا القانون وعن تمزيقات في جسد المسيح الواحد. ولا يجعل أحد تعدّد المواهب تعدّداً في الانتماء. فالخدم في الكنيسة متنوعة لكن “العضوية- الانتماء- الختان- الختم” هو واحد في جسد المسيح الحيّ- كنيسته. فلا علامة ولا عضوية ولا هوية ولا رمز ولا إشارة إلاّ “سمات الربّ يسوع” التي حملها بولس في جسده.
وهاكم ما يقوله الرسول: “لكل من يسلكون بحسب هذا القانون-النظام سلامٌ ورحمة. إذ حاشى لنا أن نفتخر إلاّ بصليب ربنا يسوع المسيح”، آمين.
المتروبوليت بولس يازجي
مطرانية الروم الأرثوذكس