من الكتابات الأرثوذكسية المسكونية:
|
قبول الاماته |
+ انتبهي لحالكِ أيتها النفس لأن الوقت قريب، فإن أردتِ أن تُتوَّجي، فلابد أن تخوضي حرباً ضروساً ضد أهوائك، فإن انتصرتِ فيها، فسوف تُزيِّن أكاليلُ المجد والكرامة هامَتَكِ. فتقوِّي، إذن، واقبلي الإهانة، اقبلي بفرح كل لوم يقع عليكِ، ولا تجتهدي في تبرير مواقفكِ، ولكن اطلبي فقط المغفرة. فكلُّ شتيمة وإهانة ولوم، وكل قول رديء، وكل تهمة باطلة؛ كل ذلك يحمل إليكِ النعمة. أما إن رفضتِ كل ذلك، وإن عرفتِ الطريق نحو المرارة والغضب تجاه مَن يسيئون إليكِ، فلن تصلي إلى ما أعدَّه لك المسيح من غِنىً.
+ فعندما يفشل العدو في زعزعتنا داخلياً، فإنه يثير ضدّنا آلاماً وأتعاباً خارجية بفعل بعض المساكين الخاضعين له. وفي مواجهة ذلك، علينا أن نُركِّز أعيننا على ”ملكوت الله“ الذي من أجله نقبل بكل رضا إهانة الناس واحتقارهم لنا. ولنتذكر في ذلك القديسين الذين سبقونا، ولم يكن العالم مستحقاً لهم، فهم قد عاشوا في ضيقات وآلام وأتعاب، وعانوا من ظروف غاية في الصعوبة.
فأيُّ طريقٍ آخر، إذن، نبتغي، لكي نخلص؟!!
ويوصينا الآباء بأنه إن لم نسعَ إلى الأتعاب عن طريق الزهد والتقشف، فعلى الأقل لا نرفض ما يرسله الله لنا منها. وهذا الأمر ليس سهلاً، إلاَّ أنه يساوي جميع الفضائل. فالذي يقدر على قبول الإهانات من أجل ”محبة الله“ يدلُّ بذلك على صلاحه، لأن مثل ذلك الإنسان يسكنه الحب والاتضاع اللذان يُمكِّناه من احتمال مضايقات القريب بفرح.
+ هذا هو الطريق الذي خَلُص به كثيرون، هذا هو طريق ”الجُهَّال من أجل المسيح“ الذي تتجسَّد فيه كل الفضائل. ومَن يركضون في هذا الطريق هم أولئك الذين لا يطمعون في شيء من هذا العالم، فهم من أجل المسيح يصبرون على احتمال إساءة الآخرين، وهم يمجِّدون الله!
+ فاعتبر نفسك أنك لا تقدر إلاَّ على قبول الإهانة، وذلك من أجل ”محبة الله“. فالذي يريد أن يكون في المقدمة عليه بخدمة الكل. فسليمان الذي كان يتمتع بالحكمة والغِنَى، صرَّح في أواخر أيامه بأن الكل باطل، وأن مخافة الله والحب والاتضاع هم أساس كل حكمة وقداسة.
+ ولنتمسك بالإيمان القويم، لأنه يساعدنا على ممارسة الإماتة. والإيمان القويم هو الإيمان المقرون بالأعمال الصالحة. ولا نركن أبداً إلى الكسل، لأنه يجعلنا نستند على ”إيمان“ في الذهن فقط دون الإرادة، وهذا هو الإيمان الميت.
+ كذلك فلنترك عنا الاهتمام (الباطل) بخلاص الآخرين، متناسين خلاص أنفسنا. فكل واحد منا سيُعطي حساب وكالته هو. أما اقتحام حياة الآخرين وفرض أنفسنا بالقوة عليهم بحجة أننا نريد خلاصهم، فهذا أمر غير مقبول إلاَّ لفئة معينة قد وُضـِعَ النير على عنقها. لهذا فهي تجاهد حتى الموت من أجل خلاص الآخرين. أما نحن فلنأخذ الرهبان مثالاً لنا، لأنهم تركوا المجد والكرامة وكراسي التعليم من أجل خلاص نفوسهم.
+ والأمر البغيض في أيامنا هذه أن البعض لا يحترم تعاليم الآباء، بل يسخرون من أولئك الذين يأخذونها مأخذ الجد، ذلك لأنهم يعيشون حسب أهوائهم فيصنعون لأنفسهم تعاليم تتفق مع رغباتهم المريضة؛ والبعض الآخر انشغل بتعليم الآخرين، فنسوا أنفسهم أو تناسوها، ووقعوا في الإهمال والتواني فبردت حرارتهم الروحية.
+ وأما أولئك الذين ابتغوا الإماتة طريقاً لهم، فهؤلاء ستنفتح لهم كنوز زاخرة بما يؤَمِّن خلاصهم. فمثلاً إن رأينا أخاً يرتكب خطأً ما فلنكن حينئذٍ كمَن هم خُرسٌ وصُمٌّ وعُميٌ، فلا نتكلَّم ولا نسمع ولا نرى. فالذي يريد أن يخلص دون أن يحوِّل لسانه وأُذنيه وعينيه عن مراقبة الآخرين، لن يجد الهدوء حتى ولو كانت نفسه تنعم بالسلام، لأن السلام في هذه الحالة ليس حقيقياً، وإنما هو سلامٌ مزيَّف لأنه غير مؤسَّسٍ على بساطة الروح التي تُصيِّرنا مثل الأطفال.
+ أما بالنسبة لأخطائنا نحن، فلننتبه إليها جيداً فاحصين إيَّاها بعمق. وحينما نُسأل عنها، فلا نبحث عن مبرِّرات، ولكن علينا بأن نجيب مَن يسألنا: ”اغفر لي من أجل محبة الله“، ولنلزم الصمت لأنه خير من الملاججة، لأن المسيح قيل عنه: «ظُلِمَ أما هو فتذلَّل ولم يفتح فاه، كشاةٍ تُساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازِّيها فلم يفتح فاه.» (إش 53: 7)
+ فيا أيها الإنسان تمثَّل بخالقك: فلا تَرُدّ على مَن يُسيئون إليك، ولا تُفكِّر أبداً أن أخاك يمكن أن يكون سبباً لشقائك. لا تَلُم أخاك مطلقاً بل نفسك في كل ما تعمله، لأنك تراب وإلى التراب تعود. لا تطلب من أحد شيئاً مطلقاً إذا لم تكن في حاجة ماسة إليه. عوِّد نفسك على التكلُّم بالحُسنى على كل أحد، وأن تُخفي ما تعتبره حَسَناتك. ففي هذا كله يكون الاتضاع الكامل الذي يرفع النفس من وهدة الجحيم ويحررها من سطوة الآلام، فتنال في النهاية النصرة على الشيطان.
+ فليساعدنا الرب على احتمال ما يأتي علينا، آمين.