دعوة للاتضاع

من وحي زيارة
القديسة مريم لأليصابات

دعوة للاتضاع
– 2 –

 

+ تناول الجزء الأول من هذا المقال (الذي نُشر في عدد ديسمبر 2003، ص 30)، هذا الاتجاه المسيحي، حجر الزاوية في بنياننا الروحي، والذي أكَّده مخلِّصنا الصالح بإخلائه وتجسُّده وحياته وتعليمه، ومارسته أُمه العذراء ورسله. وساق المقال الأسباب التي تجعل الاتضاع حتمياً لمن يريد أن يتبع طريق الرب. وهو هنا يُلقي الضوء على غِنَى الاتضاع كنبع للفضائل، والطريق إلى بلوغه.
الاتضاع نبع الفضائل:

يُجمع القديسون على أن الاتضاع هو نبع الفضائل، أي أنه أساس قيام سائر الفضائل ونموها:

+وفي المقام الأول، فإن ممارسة محبة الله والقريب، وهي أولى وأعظم الوصايا وبها يتعلَّق الناموس كله والأنبياء (مت 22: 36-39، مر 12: 30و31، لو 10: 27)، والتي يصفها معلِّمنا بولس الرسول بأنها رباط الكمال (كو 3: 14) وتكميل الناموس (رو 13: 10)، هي مهمة مستحيلة دون اتضاع النفس وإنكار الذات. فلا يمكن للمنحصر في ذاتــه أن يهتم بآخر، فضلاً عـن أن يحبه ويبذل نفسه مـن أجله (يو 15: 13). والذي لا تشغله محبة الآخر الذي يبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره (1يو 4: 20)!

+كما أن اتِّباع الرب والإيمان به يقتضي إدراك أن النفس خاطئة ومحتاجة إلى المخلِّص، وهكذا تنجذب إلى برِّه وقداسته. هكذا رأينا بطرس في لقائه الحاسم مع الرب. فبعد صيد السمك الكثير، صرخ بطرس قائلاً: “اخرج من سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ” (لو 5: 8)، ولأنه كان صادقاً في شعوره فقد ترك كل شيء وتبعه. وبدون هذا الشعور بالاحتياج الذي يُغذيه الاتضاع يظل الإنسان تائهاً يتخبط في الظلام وتفلت منه فرص التوبة والنجاة.

+وبدون الاتضاع يعسر على الشخص الخاطئ أن يعتذر أو يطلب المغفرة، لأنه يظل دوماً باراً في عيني نفسه. كما يتعذر – حتى على المؤمن – أن يسامح أو يغفر وينسى إن لم يكن الاتضاع أصيلاً في بنيانه الروحي.

+الاتضاع هو أساس العبادة المقبولة. فصلاة العشار المنسحق المعترف بخطيئته، دخلت إلى محضر الله ونال الغفران. وطاعة الوصية أمامها العقبات إن لم تستند إلى قوة الله، والصوم وما يتضمنه من تعفُّف وتقشف ونسك وتوبة وانسحاق وجهاد وصبر لا ينجح إلاَّ بالاتضاع.

+ + +الاتضاع هو أساس الخدمة المثمرة الناجحة التي تقصد مجد الله، وفيه لا يصير البذل من أجل الآخرين عبئاً ووهقاً، وإنما بركةً وفرحاً. وكل جهد يؤول حتماً إلى “تعب المحبة” الذي لا يُنسى قدَّام الله (عب 6: 10).

+وفي الاتضاع تُقبل الآلام من أجل المسيح دون تذمُّر أو دمدمة: “أالخير نقبل من عند الله، والشر لا نقبل” (أي 2: 10). ويصير احتمال الاضطهاد بسبب الإيمان أمراً واجب الطاعة: “إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم” (يو 15: 20)، وتصير كل الوصايا التي تتطلَّب التغصُّب وضبط النفس قابلة للتنفيذ بكل رضى، ومعها ينمو الصبر والاحتمال وطول الأناة وبطء الغضب.

+وكما علَّمنا القديسون: فلا يقهر إبليسَ ومؤامرته ضدنا، والحروب التي يستغل فيها ضعف جسدنا؛ غير اتضاعنا، الذي يعني أننا قد وضعنا كل ثقتنا واتكالنا، لا على أنفسنا وتقوانا، وإنما على الذراع الرفيع لإلهنا الغالب دوماً القادر وحده أن يصلب فينا كل الأهواء والشهوات (غل 5: 24).

+وفي الحياة الزوجية، فإن الاتضاع هو عماد التآلف، وفيه ينضبط الغضب ويتأصَّل التسامح وتصير النفس قادرة على الغفران: “كما غفر لنا المسيح” (كو 3: 13)، ونسيان الإساءة كأن لم تكن، فتتوطد العلاقة وتنمو المحبة مع كل يوم. وعلى العكس، فعندما يغيب الاتضاع يتوارى الاحتمال ويحل الشقاق، ومع كل يوم يتعمَّق الاختلاف ويسود التباعُد ويتهدد العلاقة الانهيار.

+وفي الجانب السلوكي، فإن الاتضاع هو الأرض الخصبة لنمو العديد من الصفات التي تجمِّل النفس وترتقي بها. فتتسم نفس المتضع بالوداعة واللطف والهدوء، وبالحلم وضبط النفس، وبالاحتشام في المظهر وبالتجرُّد وبساطة الحياة، والنفور من الطمع والترف وتعظُّم المعيشة، وسهولة التعامل مع الغير واكتساب حبهم، وإذا مال إلى المرح ففي غير ابتذال أو صخب. والمتضع دائماً يُقدِّم غيره، ويتجاهل المديح والكرامة، ويقبل النقد والتوجيه باتساع قلب. وفي وقت التجارب والآلام يعرف أن يشكر الله لا أن يشكو ويئن ويندب حظه، وهو لا ينحصر في همومه الذاتية، بل هو مستعد دوماً لمساندة المتضايقين وتعزيتهم فينال التعزية هو أيضاً.

+وإذا كــان الاتضاع يبدأ بـإدراك قصورنا وضعفنا وخطيئتنا أمام كمال الله وقوته وقداسته، فإن نمونا فيه يُديم علينا نعمة الله، ويُعمِّق شعورنا بأن حضور الله في حياتنا هو سر تقدُّمنا وانتصارنا.

كيف نبلغ إلى الاتضاع؟

ولا نقصد كيف نتخذ هيئة الاتضاع (فما أسهل التظاهر بالتقوى – 2تي 3: 5)، لأن الاتضاع كالسجود ينبغي أن يكون بالروح والحق. وهو لن يأتي بالاستماع أو القراءة عنه، وإنما باختباره وممارسته. ومظاهـر المتضع الخارجية إذا كـانت حقيقية، هي ثمار فعل روحي باطني (وليس فعلاً ذاتياً) يعمله الروح القدس (غل 5: 22)، ولـن نناله إلاَّ عندمــا نطلبه منه بتوسُّـل شديـد. وأول مــا سوف يعمله الروح هـو أن يُسلِّط نـوره على حياتنا، فنكتشف قصورنا ومحدوديتنا وعجزنا، ونتعرف على نقائصنا وعيوبنا ونقاط ضعفنا وكبريائنا المستترة خلف ستار الرياء والزيف.

وسـوف يتعيَّن علينا أن نقبل خطة الله لتحطيم كبريائنا بكل وسيلة يختارها سواء بــالألم أو المرض أو التجارب أو الخسائر، ليُنْهي بالتوبة وتسليم الحياة اعتمادنا على ذواتنا أو غيرنا أو على العالم وأشيائه، ويُحوِّل ثقتنا إليه كضابط للكل وقادر على كل شيء.

وسيسندنا في التغلُّب على كبريائنا، التمثُّل بالرب: “ناظرين إلى رئيس الإيمان ومُكمِّله يسوع” (عب 12: 2)، والتطلُّع إلى حياتـه الوديعة (مت 11: 29)، وإلى حياة قدِّيسيه: “تمثـَّلوا بإيمانهم” (عب 13: 7)، متحوِّلين من حياة يُقاومنا فيها الله إلى حياة نتمتع فيها بنعمة الله ومساندته (يع 4: 6)، ويصير الاتضاع عنصراً أصيلاً في كياننا الروحي ينمو ويتعمَّق كل الحياة.

ملاحظات أخيرة:

+لكي نستكمل صورة هذه الفضيلة المحورية في حياة المؤمنين، نرى لزاماً أن نشير إلى أن الاتضاع لا علاقة له بصغر النفس، أو ضعف الشخصية، أو غياب الطموح والتقدُّم، أو الانسحاب من الحياة، أو التردُّد في أداء الواجب وخدمة العالم؛ فهذه أمراض نفسية واجتماعية يبرأ منها الروحيون المختبرون للإيمان المسيحي.

+وبالأَوْلَى، فالاتضاع، تلك النعمة الإلهية التي يدعونا الرب إليها، لا علاقة له بسلوك ضعاف النفوس من الجُبن والتخاذل والهروب من المواجهة مع العالم المقاوِم. وإذا كان من الطبيعي أن يكون المتضع هادئاً محتملاً في الأحوال العادية، إلاَّ أنه في مثل هذه المواقف فإنه – مستنداً إلى قوة الله ومساندة النعمة – يتخلَّى عن هدوئه واحتماله، يدفعه التزام الإيمان مستخدماً ما أودعه الله فيه أيضاً من غيرة وصرامة وحسم.

وهـا هــو الرب، وهو يُحاكَم وفي طريقه إلى الصليب، يقف صامداً قوياً أمام جلاَّديه وصالبيه ولا يتفادى الموت، وعلى نهجه كان إيليا أمام أخآب (1مل 18: 18؛ 21: 20-24)، والمعمدان في مواجهة هيرودس (مت 14: 4، مر 6: 18)، وبطرس أمام المجمع (أع 5)، وبولس في أريوس باغوس وأمام قائد المئة والوالي فستوس والملك أغريباس (أع 22 و25 و26)، وسائر الشهداء ساعة الموت.

+كما أن الاتضاع لا يتعارض مع الكرامة الإنسانية والدفاع عنها أمام مَن يريد سحقها، كأولاد لله وخليقته الأثيرة، ولا يُنافي قول الحق والدفاع عنه دون خوف، وإن كان سيضمن أيضاً أن يشهد المؤمن للحق ضد نفسه هو إذا انسبق في زلة ما؛ كما سيضمن ألاَّ يقترن دفاعه عن الحق بالتهجُّم أو عثرات اللسان.

+وهو لا يتنافى مع قيام المؤمن بمهام الرئاسة والقيادة والحُكْم والقضاء والتربية والتأديب وحماية المجتمع والدفاع عن الوطن. ولكن في هذه كلها يبقى أميناً ولن يستخدم سلطانه لحسابه هو، ولن يتجاوز وصية الله، ولن ينسى أنه أيضاً تحت قيادة الله وسلطانه وتأديبه: “عالمين أن سيدكم أنتم أيضاً في السموات، وليس عنده مُحاباة.” (أف 6: 9)

 

+ + +

هذه دعوة من الرب للاتضاع.

وإذا كان الكتاب يقول إن: “مَن لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة” (1يو 4: 8)، فإنه يمكن القول أيضاً إن مَن لا يتضع لم يعرف الله، لأن الرب وضع نفسه وطلب أن نتعلَّم منه الوداعة واتضاع القلب، فنجد راحة لنفوسنا.

ولنسلِّم نفوسنا لعمل الروح متقدِّمين بثقة إلى عرش النعمة: “كي ننال رحمة ونجد نعمة، عوناً في حينه.” (عب 4: 16)

Scroll to Top