الاسكـاتـولوجيَّـا (8)
المـوت والقيَّـامـة، السمـاء والمطـهر وجهنَّـم.
الفصل الأول : بعـض مفاهيـم الآخـرة.
د- المذهـب الأوريجـانيّ.
كان أوريجانيس كالولد الصعب المراس في أسرة آباء الكنيسة، لكن فكره أثر تأثيراً عميقاً في الفكر المسيحي الذي عرفته القرون الأولى، كما أنه أثّر أيضاً في الروحانية المسيحية. وفي الحقل الذي نحن بصدده، رفضت الكنيسة مذهبه في وقت لاحق، فكان «الجـدال الأوريجينـيّ» المشهور. سنتوسّع في ما يختصّ بموضوعنا عند أوريجانيس، ولا سيّما بكتابه «في المبـادئ».
1- المعـاودة (الإعادة الشاملة الى الوضع السابق): إن نفوس الذين خطئوا على هذه الأرض ستُطهّر بالنار بعد موتهم. فتدخل نفوس الأخيار الى الفردوس، أي في نوع من المدرسة يأتي فيها الله بحلّ لجميع مشاكل الكون. وسينال جميع الخاطئين الخلاص. أما الشياطين وإبليس نفسه فسيطهّرهم الكلمة (لوغس). وبعد أن يتمّ ذلك، يكون مجيء المسيح الثاني، ثم قيامة جميع البشر، في أجساد غير ماديّة، بل روحية، فيكون الله كل شيء في الجميع. و«ستتمّ نهاية العالم والانقضاء الأخير، حين يكون كلّ واحد قد تحمَّل عقاب خطاياه. والوقت الذي يجازي الله فيه كل واحد بحسب استحقاقاته لا يعرفه إلا الله. ورأينا هو أن عطف الله سيعيد، بمسيحه، جميع المخلوقات الى نهاية واحدة، حتى أعداءه، بعد أن يكون قد استمالهم وأخضعهم.
2- وجـود النفـوس السابـق: ذلك بأنّ الله خلق في البدء جميع النفوس. وفي الأصل، كانت جميع الطبائع الناطقة متساوية ومتّحدة في مشاهدة الثالوث السعيدة. لكنَّ نوعاً من الثقل استولى عليها فبردت همّتها في المشاهدة، فسقطت وابتعدت كثيراً أو قليلاً عن الله وبعضها عن بعض. بالفرق القائم بين الأرواح، ولا سيما بين الملائكة والبشر، ولا يعود الى فرق في الطبيعة، بل الى اختلاف في التأهب الباطني، يظهر من ميل كبير أو صغير الى المادة (باختلاف ما نراه عند الغنوصيين). فالمادة ليست هي سبب سقوط الأرواح، بل نتيجته. وفي ارتباط بسقوط الأرواح، خلق الله طبيعة أخرى، وفي الكون الحسّي الذي يتيح للطبائع الناطقة المتجسّدة أن تستعيد عن طريق المحنة صفاءها الأصليّ.
لكن تطهّر الأرواح هذا لا يمكن أن يتمّ يإقامة واحدة في العالم الحسّي. ذلك بأن بعض الأرواح، بعد مثل هذه الإقامة، يزيدون سقوطهم سوءاً، ومنهم من لا ينهضون إلا بوجه غير كامل. ومن هنا ضرورة وجود عدة عوالم، يختلف بعضها عن بعض، إذ إن استعدادات الأرواح وصفاتهم الروحية تختلف في كلّ من هذه العوالم. لكن هذه العوالم تتعاقب – ولا تتواجد في وقت واحد. وبذلك يسيرون، كل واحد بدوره، نحو إعادة الوحدة الأصلية على وجه نهائي.
ففي الأصل، خلق الله عدداً معيّناً ومناسباً من الأرواح أو من المخلوقات الناطقة، علماً بأن هذا العدد يعبّر عن عقلانية الفعل الخالق. لكن هذه المخلوقات مفطورة على الحرية- ولقد شدّد أوريجانيس كثيراً على هذه الحرية – فهي تستطيع أن تبتعد عن الله وأن تخطأ. ففي إمكان المخلوقات الروحية أن تسقط من قمم الخير الى أعماق الشرّ.
لكن الله ينتصر تدريجياً على أعدائه، فإنه يردّهم الى نفسه، فتصبح إرادتهم الشريرة إرادة صالحة، ويكون الله، في آخر الأمر، كل شيء في الجميع. ذلك بأنه يحسن أن تكون النهاية الأخيرية مطابقة الأصل. هذا المبدأ هو من مبادئ أوريجانيس الأساسية: «النهاية ستجدّد البداية، ومنتهى الأشياء سيُرَدّ الى بدئها، وبذلك يُستعاد الوضع القديم الذي نالته الطبيعة الناطقة، حين لم تكن في حاجة الى الأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ. وكل شعور بالخبث سيبعد ويغسل فيصبح صافياً وطاهراً، والذي هو الله الصالح الأوحد يصبح وحده كل شيء لتلك الخليقة الناطقة». «فعلينا إذا أن نعتقد بأن جوهرنا الجسدي كله سيُرَدّ الى هذا الوضع، حتى تعاد جميع الأشياء الى الوحدة ويكون الله كل شيء في الجميع». أي: حين يعاد كل شيء في الله، تكون النهاية الأخيرة.
من الواضح أن جهنّم، في هذه النظرة، لا تكون أبدية، إذ إن الله، في رأفته، سينتصر على جميع أعدائه. فليس هناك عقاب، إلا العقاب الدوائي الذي من شأنه أن يمكّن إصلاح المذنب وندامته. إن المجمع القسطنطيني الثاني (533) أدان أوريجانيس وشجب المذهب الأوريجيني.
هـ- «الإرجـائيـة».
هي النزعة الى تأجيل الرؤية السعيدة الى ما بعد قيامة الأجساد والدينونة العامة، وإذاً الى نهاية الأزمنة. وبانتظار ذلك اليوم، يقيم مختارو المستقبل في «مكان غير منظور يحدّده الله»، أو في «فناء»، أو في «مكان راحة»، أو في «الفردوس الذي خلـق لآدم»، أو في «حضن ابراهيم»، أو أيضاً «تحت المذبح». جميع هذه التعابير تعني، على ما كانوا يعتقدون، المهلة المفروضة على النفوس البارّة، حتى نهاية الأزمنة. وهذه النزعة تتأصّل في المفهوم اليهودي لمثوى الأموات.وهذا المفهوم – وهو في خطّ الألفية – نجده عند عدد من آباء الكنيسة، ولا سيّما القدّيس أمبروسيوس، أو أيضاً أفراهاط السرياني، وهو يعتقد بأن النفس بعد الموت تكون في حالة تخدّر قواها.
من الواضح أن ذلك يفترض التسليم بمفهوم الإنسان المركّب من نفس وجسد. فماذا يحلّ بالنفس قبل قيامة الجسد؟ بما أن الإنسان هو غير «كامـل»، فإنه يصبح «ناقصـاً»، ينتظر جزءاً من ذاته، فيستريح في حضن إبراهيم. ويُستنتج من ذلك أن الانسان، مع أنه يتمتّع بشيء من السعادة، لا يستطيع حتى ذلك الوقت أن يرى الله أو أن يهلك.
ذاك هو، في العصر الوسيط، موقف البابا يوحنا الثاني والعشرين. ذاك هو حتى اليوم موقف البيزنطيّين الأرثوذكس. لكن يوحنا الثاني والعشرين رجع عن كلامه على فراش الموت. وقام خليفته بندكتس الثاني عشر بإصدار الدستور الرسولي «تبـارك الله»، وقد أعلن فيه رسمياً أن الكنيسة تعلّم أن المختارين يتمتّعون منذ الآن برؤية الله وجهاً لوجه، من دون أن ينتظروا مجيء المسيح الثاني، وأن الهالكين يعانون منذ الآن عقاب جهنّم…