الجسد في العبادة بالروح والحقّ

الجسد في العبادة بالروح والحقّ

 

 

“الله روحُ”! إن أهم تجديد أدخلته المسيحية إلى العبادة كان تحويلها والسمّو بها إلى كمالها إلى “العبادة بالروح والحق” (يوحنا 4، 24). لكن هذا لا يعني أنها عبادة عقلانية بمعزل عن الجسد دون علامات وأوضاع خارجية. فالروح هنا لا تعني روح الإنسان-نفسه، لكن الروح القدس. أما الإنسان فيعبد بكل كيانه روحاً ونفساً وجسداً (1تسا 5، 23). إن الإيمان عندما يغمر الإنسان يحرك كل كيانه. وهذا يظهر في الحركات والعلاقات الخارجية. فليس من عبادة حق دون اشتراك الجسد في التعبير بطريقة أو بأخرى.
الجسد، في المسيحية، ليس سجناً للروح، تتحرك هذه فيه وتريد أن تتحرر منه، فليس هو عالة على النفس. إن الجسد هو أداة الحياة الروحية. وهناك دور هام له في كل علاقات الإنسان، فعدا العبادة، في كل أطر الحياة، تأخذ حركات الجسد ووضعياته الجزء الأهم والظاهر من التعبير الروحي والنفسي للكائن البشري. فإحناء الرأس أو رفع اليد أو الوقوف.. كلها لها مدلولاتها الروحية. وهذه المدلولات ليست تعابيراً اجتماعية أو محليّة فقط بل هي الشكل الطبيعي للحياة الروحية والنفسية للإنسان في مظاهرها عبر الجسد. الكائن البشري هو كيان واحد غير متجزئ. والإنسان يعبد بالروح والحق بواسطة جسده ونفسه، أي بكل كيانه. بالطبع إن الحركات الخارجية والمظاهر دون مشاركة القلب والعقل تبدو باطلة، وهذا ما سمّاه يسوع “مراآة” وهي عبادة مرفوضة بالمطلق. لكن وجود مثل هذا الاحتمال لا يلغي ضرورة التعابير الجسدية وقدرتها على مساعدة القلب في العبادة وحقيقتَها كتعبير كياني حي.
“هلم لنسجد ونركع للمسيح ملكنا وإلهنا”، عبارة تتكرر في افتتاحيات طقوسنا وخلالها، وهذه إحدى ألوان مشاركة الجسد في العبادة، أو بكلمة أخرى هي إحدى أشكال التعبير عن العبادة بالروح والحق.
“السجود” هو طريقة للتعبير إما عن العبادة لله، أو عن الإكرام للقديسين. وهو عادة بشرية متّبعة حتى خارج المسيحية والأديان عموماً. فالإنسان يسجد أمام الأقوى منه استرحاماً، أو يسجد شكراً وامتناناً. والعبيد يسجدون أمام ملوكهم. إن السجود هو التعبير العميق عن الإتضاع والاحترام، والكتاب المقدس ملآن بالأمثلة في عهديه القديم والجديد. لقد سجد بني يعقوب لأخيهم يوسف في مصر. وسجد يعقوب لأخيه عيسو سبع مرات إلى الأرض. لهذا يعلن بولس يسوع المسيح المصلوب ربّاً ” لاسمه تجثو كل ركبة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض” (فيلبي 2، 9-11). وسجد التلاميذ للمسيح عند ظهوره لهم بعد قيامته من بين الأموات (متى 28، 9 و17؛ لوقا 14، 5). وسجد المجوس ليسوع وهو طفل (متى 2، 2 و11)، مقدمين له واجب العبادة بحقّ. ويخبرنا سفر الرؤيا عن تلك العبادة لله الحي القادر على كل شيء الذي كان والكائن والآتي، “فكان الشيوخ الأربعة والعشرون يخرّون قدام الجالس على العرش ويسجدون للحي إلى أبد الآبدين ويطرحون أكاليلهم أمام العرش قائلين: أنت مستحّق أيها الرب أن تأخذ الكرامة والمجد..”. وهذا ما فعله يوحنا الرسول في رؤياه وهمّ بالسجود للملاك “فخررتُ أمام رجليه لأسجد له، فقال لي انظر لا تفعل… اسجد لله” (رؤيا 19، 10)
“كل مرّة نسجد فيها إلى الأرض نشير إلى كيف أحدرتنا الخطيئة إلى الأرض، وحينما ننتصب نعترف برحمة الله التي رفعتنا وجعلت لنا نصيباً في السماء” (القديس باسيليوس الكبير). “اسجد في صلاتك واسأل الله بانسحاق ليعطيك الصبر وضبط الفكر”، “إذ عكرّتنا الأفكار أثناء الصلاة وشعرنا بالملل، فلنخرّ على الأرض وكتاب الصلاة في أيدينا ونضرع ونحن ساجدون أن يهبنا الله النشاط لنُكملَ صلاتنا”. “الفضائل التي تُقتنى بالراحة (دون مشاركة الجسد) تكون في النهاية من نصيب الشيطان”. “إن رائحة عرق التعب في الصلاة هي أذكى من رائحة البخور لدى الربّ”؛ يقول القديس اسحق السرياني.
وقبل كل لحظة تتطلب منا اهتماماً خاصاً في الصلوات يُعلن الكاهن: السلام لجميعكم، لنحني رؤوسنا للرب. وتُتلى أغلب الصلوات والتضرعات من الكاهن والشعب حانياً أعناقه. كما أن العديد من الصلوات الجماعية تتم “بإحناء الركب”. ولدينا خدمة خاصة تتم يوم العنصرة وتسمى صلاة “السجدة”. إن وضعية الابتهال والركب منحنية هي الوضعية المتضرعة بشدة وحرارة. وهذا ما نراه عند بطرس الرسول “فأخرج الجميع خارجاً وجثا على ركبتَيه وصلى” (أع 9، 40). وكذلك بولس عندما ودّع أهل أفسس “جثا على ركبته مع جميعهم وصلى”. وهو في رسائله يقول ” لهذا أحني ركبتّي لدى أبي ربنا يسوع المسيح… لكي يعطيكم أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن” (أفسس3 ، 15). ويرفع الإنسان يديه إلى الله في تضرعاته الحارة. كما يقول المزمور “إليك بسطت يديَّ”. وغالباً ما يترافق ذلك مع الركوع وإحناء الركب.
كل هذه الوضعيات الجسدية في العبادة هي ممارسات مُساعدة تجعل الكيان البشري بكامله مشاركاً فيها. وتُضفي على جوّ العبادة أهمَّ شرطٍ فيها وهو الخشوع، وتجمع الذهن أكثر وتساعده على إدراك معاني العبادة، هكذا تصير العبادة بمعرفه. وتبتعد عن جوّ العادة.
يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي عن أخته القديسة “أن ركبتها تصلّبت من كثرة الركوع”. ويروي كتاب بستان الرهبان أنه عندما توفى أحد الرهبان، دخلوا غرفته فوجدوا الأرضية الخشبية أمام الأيقونة محفورة من كثرة السجدات التي كان يقوم بها.
لذلك يستغرب البعضُ منا أحياناً مشهد بعض المصلين في الكنيسة وهم جالسون طيلة الصلوات والطقوس. والأغرب من ذلك مشهد سيد يضع رجلاً على الأخرى، أو السيدة التي في فصل الصيف تهز مروحة اليد. هذه مشاهد تعني أن هؤلاء السادة والسيدات ليسوا “عابدين” وإنما “مشاهدين” لمسرحية الطقس. “ويتابعونها” كما يتابعون شاشة التلفزيون.
متى نقف في القداس أو في الصلوات، ومتى نجلس؟ لا قانون عام على ذلك. لكن المفهوم هو أننا نقف دائماً هيبة وخشوعاً ونحني الرأس ونسجد ولو بالانحناء فقط في العبادة العامة، وربما للأرض في عبادتنا الفردية. ونجلس عندما نتعب فقط. لهذا عندما تكون صلواتنا لفترة طويلة نحاول أن نجلس عند تلاوة بعض الصلوات ونقف أغلب الوقت خاصة عند قراءة الكتاب المقدس أو رفع التضرعات الحارّة مع الكاهن.
المعيار الأساسي في العبادة هي أن تكون حقيقية، أي من كلِّ القلب والنفس وكل الذهن، وهذا يعني أيضاً بكل قدرتنا الجسدية. يجلس الإنسان في الصلوات عندما يتعب. ويقف ويسجد بكامل طاقته. إن تفشّي عادة الجلوس الدائم في الكنائس يجعل الطابع الذهني يسيطر على الصلاة ويجعلنا أقرب إلى حضور مسرح وليس إلى تقديم عبادة في المعبد. إن الجسد يتوق إلى الله بلغة داؤود النبي “يا الله إلهي… عطشت إليك نفسي وتاق إليك كثيراً جسدي”.
من منظار هذا الحماس الروحي يصير هناك وقع خاص عذب وحارّ لكلمات ونداءات الكاهن أو الشماس في الكنيسة حين يُعلن: “لنحني رؤوسنا للرب”، أو عندما يبدأ القارئ بـ”هلم نسجد ونركع للمسيح ملكنا وإلهنا”. وهذه الانحناءات والسجدات تجعل كياننا كله يصلي ويعبّر عن إكرامه وسجوده لله بالروح والحق- أي بعمق ومن كل الكيان. آمين.

 

 

 

 

المتروبوليت بولس يازجي

مطرانية الروم الأرثوذكس

Scroll to Top