عجين ونذور

عجين ونذور

من الأخبار السارية في هذه الأيام خبرٌ عن عجينة أصلها من عند إحدى السيدات الكاثوليكيات في إيطاليا وقد نذرت توزيعها لأن العذراء شفتها وكلّفتها بذلك. وكل مَن يحصل على شيء من العجين عليه أن يحضّر عجيناً ويوزعه. ونعرف من قبل هذه شيئاً مماثلاً مفاده أن رسالة كتبها أحد الأتقياء ووزعها على عدد من الأشخاص فصار على كل منهم أن يكتب عدداً محدداً من هذه الرسائل ويوزعها وهكذا دواليك. هذه الأمور تشكّل تجربة لا يُستَهان بها لأبنائنا فاقتضى بعض التوضيح حول موضوعي المعجزات والنذور. خاصةً وان نصوص أغلب هذه الرسائل مشبعة بالتهويل والترهيب.

نلاحظ في الكتاب المقدّس أن الرب بعد كل شفاء كان يطلب من الذي شُفي أن لا يخبر أحداً وألاّ يعود إلى الخطيئة. فقط في شفاء البرص طلب منهم أن يذهبوا ليروا أنفسهم للكهنة، ليس لأنه يريد شهوداً على قدرته بل لأن الكهنة عند اليهود كانوا مَن يعطي شهادة على الشفاء من البَرَص الذي كان يُعتَبر لعنة، وبالتالي أراد أن يشهد الكهنة أنفسهم على أنه يرفع اللعنة أي يشفي من الخطيئة. لا نجد في الكتاب المقدس أي حادثة يطلب فيها السيد من أحد أن يقوم بأي عمل. زكّا من نفسه نذر أن يعيد كل مال قد يكون جناه عن غير حق، لم يطلب السيد ذلك منه بمقابل شفاء نفسه. الشيء نفسه يتكرّر مع الرسل والقديسين الذين قاموا بأعمال شفاء. في الوقت نفسه، يخبرنا الكتاب المقدس أن سيمون الساحر كان يشفي بمقابل المال. إذاً ما يجري في قصتي العجينة والرسالة مخالف للكتاب المقدس.

ولا بد من التساؤل هنا حول صحة نشوء الحدث بذاته. أيُعقَل أن السيد أو السيدة يظهران لكي يكلفا إنساناً بعمل ما لا يظهر فيه أي تقديس؟ أين أتقدّس أنا أو يتقدّس الذي يأخذ مني العجينة إذا كان الأمر مجرّد عجن وتوزيع؟ أي صورة للمسيح تحمل العجينة أو الرسالة؟ الأمر يشبه التنجيم ولا يشبه القداسة. لو كان الأمر هو عجن وتوزيع على الفقراء لربّما صار مقبولاً. من جهة أخرى يعلّمنا الآباء عن التمييز وعن الجهاد وهما عطيتان يفتقدهما الكثيرون حتى أنّهم يتخيّلون ظهورات وعجائب ويصدّقهم، مخدوعين، الكثيرون من أصحاب النيات الحسنة الذين لم يبلغوا بعد إلى التمييز. في تقليدنا أن الرب لا يراه إلا المجاهدون حسناً، وأن الخديعة واردة إذ يأخذ المجرّب أشكالاً مختلفة ومنها شكل الرب.

بالواقع إن الفكر الذي خلف نذور العجينة والرسالة هو فكر غريب عن إيماننا الأرثوذكسي فيما هو مقبول في الضمير الكاثوليكي الذي ورث صكوك الغفران. فالفكر الكاثوليكي يألف منطق هذه بمقابل تلك واستناده إلى أن النعمة مخلوقة. فإذا كانت مخلوقة يعني أننا قادرون على مقايضتها بمخلوق آخر، فيصبح منطق النذور مقبول. والنذر هو التعهّد بالقيام بعملٍ ما إذا جرى أمرٌ محدد. النذور كانت مقبولة في العهد القديم، أمّا العهد الجديد فلا يذكرها. في زمن الكنيسة لا نعرف نذوراً إلا نذور الرهبان، وهي العفة والطاعة وعدم القنية، لكنها لا ترتبط بحصول أمر ما بل تأتي كتهيئة لهذا الأمر. فالرهبان لا يشترطون على الرب بأنهم إذا تقدّسوا فسوف يمارسون العفة والطاعة وعدم القنية. هم ينذرون لا لأنهم تقدّسوا بل لكي يتقدّسوا. والأمر نفسه نعرفه في موضوع البركات التي يوزعها المؤمنون كعرفان بالجميل للرب المعطي. نحن لا نعطي لكي نُعطى، بل نعطي كتقدير للذي أعطانا. الفكر الصحيح لا يعطي مشترِطاً على الله بديلاً. نذورنا ينبغي أن تكون للشكر والتمجيد وليس للاشتراط.

النقطة الأخرى في موضوع النذور هي أن الإنسان يأخذ تعهداً على نفسه وليس على الآخرين. على سبيل المثال، زكّا العشار تعهّد بتوزيع بعض ماله لكنّه لم يتعهّد بأن يوزع شركاؤه العشّارون أيّ مال. الأمر نفسه ينطبق على العجينة والرسالة، فالذي نذر عجنها لا يحق له أن يلزم آخرين قد يكونون في قارة أخرى بأن يتابعوا ما هو بدأه، والأرجح عن ضلال. بما أن كل إنسان يقدّم حساباً عن أعماله فكلّ إنسان يلزم نفسه. أنا أبّشر لكني لا أستطيع أن أُلزم الناس بقبول بشارتي. من هنا أيضاً، أن نا يجري في قصتَي العجينة والرسالة هو خرق لحرية أبناء الله.

في ضميرنا أن الفكر والعمل واحد. المؤمن لا يفعل ما لا يؤمن به. من هنا أننا لا ندخل في هذه التجارب الرخيصة. إذا جاءني شخص بهذه العجينة أو بإحدى الرسائل ينبغي بي، ليس فقط أن أردها إليه، بل أن أصلّي من أجله لأنّه مخدوع وعليّ أن أحاول إقناعه بالتخلّي عن هذه الممارسة. إن المشاركة في توزيع هذه الفنون هو مشاركة بتوزيع العثرات والتجارب.

الأب أنطوان ملكي
عن نشرة الكرمة
“الأحد 21 آب 2005”
مجلّة التراث الأرثوذكسي

Scroll to Top