الزرع بالشحّ والزرع بالبركات

الزرع بالشحّ والزرع بالبركات
الأرشمندريت توما (بيطار)

عظة في الأحد الثالث من لوقا

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

يا إخوة،

“مَن يزرع شحيحاً فشحيحاً أيضاً يحصد. ومَن يزرع بالبركات فبالبركات أيضاً يحصد”.

مَن يزرع شحيحاً يُبين، في الحقيقة، أنّه لا يشاء، في قرارة نفسه، أن يزرع، لأنّ مَن كانت لديه الرغبة في الزرع فإنّه يزرع بالبركات لا محالة. أما الذي لا رغبة له في أن يزرع، ولا إرادة، فهذا يزرع شحيحاً لأسباب لا علاقة لها بالزرع، ربما عن اضطرار أو على عيون الناس. لهذا يزرع ولكنْ من دون فرح.

ليس أحد مُلزَماً بان يعطي. كل واحد كما نوى في قلبه. الله لا تهمّه عطاءات الناس لأن له الأرض وملأها. ينظر إلى القلب، إلى القصد، ولا ينظر إلى العمل بحدّ ذاته. ظواهر الأمور لا تعنيه. وحده الروح الذي نعطي به يهمّه.

كلّنا، يا إخوة، يذكر قصّة حنانيا وسفيرة في سفر أعمال الرسل (الإصحاح 5). لم تكن لحنانيا وسفيرة رغبة كاملة في العطاء. لهذا لما باعا حقلاً وأتيا بالمال ليضعاه عند أقدام الرسل، على عادة المؤمنين يومذاك، أخفيا، لعدم استقامتهما، جزءاً من المال لنفسيهما. ومع أنّهما أعطيا ما لا بأس به، من حيث الكمّية، لم يقبل الربّ الإله عطيّتهما. سقطا صريعَين لأنّهما كذبا، لا على الناس بل على روح الربّ. هذا لنتعلّم أن نتعاطى مع الله بقلب نقي وبقلب كامل. أما مَن شاء أن يعطي ليُقال عنه إنّه أعطى أو لغاية أخرى غير نقيّة في نفسه فهذا، في الحقيقة، ينال شحيحاً. والشحيح الذي يناله هو هذا القبول، هذا الإكرام وهذا المديح الذي يلتمسه في الناس.

لا يعني الشحيح، في الحقيقة، القليل. الشحيح يعني ما لا ينبع من القلب المحبّ، من القلب السخيّ، من القلب الكامل.  قد يعطي الغني كثيراً قياساً بما يعطيه الفقير، ومع ذلك يبقى عطاؤه شحيحاً لأنّه لا يُعطي وِسْعَه ولأنّه يطلب مجد نفسه ولا يطلب مجد الله. هذا إذ يعطي يعطي، في الحقيقة، عن اضطرار، ثمناً لمحبّة الظهور بمظهر الحملان أو المحسنين.

من هنا، يا إخوة، قول الرسول إنّ الله يحبّ المعطي المتهلّل. المعطي الحقّ هو مَن يُعطي من قلبه وبسخاء. هذا لا يمكنه إلاّ أن يتهلّل، لأنّ الفرح في الروح هو ثمرة العطاء الكامل المحبّ. لذا قيل “مغبوط العطاء أكثر من الأخذ”. المعطي بسخاء في الغبطة كائن هنا ومنذ الآن. لا شيء يعادل العطاء من كل القلب فرحاً على الأرض. هذا هو الفرح الذي لا أحد ينزعه منّا.  يبقى فينا راسخاً عميقاً إلى الأبد. لذا قال أحد كبار آبائنا، القدّيس مكسيموس المعترف، إنّ المؤمن لا يأخذ معه في موته إلاّ ما يكون قد أعطاه. هذا ما له قيمة أبدية. “بدّد وأعطى المساكين فبرّه يدوم إلى الأبد”.

لقد شاء الربّ الإله أن يعطينا الملكوت بالقليل. نحن، هنا، بإزاء تجارة التقوى. نعطي القليل ونأخذ الكثير. نعطي ما يفنى لنأخذ ما لا يفنى. نعزّي بالقليل قلوب المضنوكين فيعزّينا الربّ الإله بعزاء أبدي. لقد جعل الربّ الإله لنا، بحسب الذهبي الفم، أن ننهل من الخيرات الأبدية منذ الآن. فقط علينا أن نعطي وبسخاء، بلا ندامة، من كل القلب، مما أعطانا إياه الربّ الإله. مهما كانت مواردنا محدودة، مهما كان ما نعطيه قليلاً فبه، إذا ما كان من كل القلب، نأخذ نعمة عظيمة، منذ الآن، على غرار الأرملة التي لم تطرح في صندوق العطايا سوى فلسَين.

في مقابل ذلك يقول الرسول “إنّ الله قادر أن يزيدكم كل نعمة حتى تكون لكم كلُّ كفاية كلَّ حين في كلِّ شيء”. الله، في محبّته، يعطينا ما فيه الكفاية لنا من جهة حاجاتنا في هذا الدهر. هو يتكفَّل بنا إذا ما كنا أسخياء في العطاء، متهلّلين في البذل، زارعين بالبركات. يعطينا الكفاية ههنا وفي الدهر الآتي حياة أبدية. يعطينا الكفاية لأنّ الكفاية أسلم لنا. لا يشاء الله أن يعطي المؤمن غنًى في هذا الدهر. الغنى في هذا الدهر تجربة كبيرة. يعطينا ما نسدّ به الحاجة. لذا ورد القول: “إن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما. وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبيّة ومضرّة تغرِّق الناس في العطب والهلاك” (1 تيم 6). في أحد أدعية سفر الأمثال: “لا تعطني فقراً ولا غنى. أطعمني خبز فريضتي لئلا أشبع وأكفر وأقول مَن هو الربّ. أو لئلا أفتقر وأسرق وأتّخذ اسم إلهي باطلاً” (الإصحاح 30). الربّ الإله يعطي الكفاية لقضاء الحاجة، من ناحية، وليتيح لنا، من ناحية أخرى، من خلال ما يعطينا، أن تبقى عيوننا مسمّرة عليه، من حيث هو المعطي أبداً، فلا نبطر ولا نكفر به. “أعين الكل إيّاك تترجّى وأنت تعطيهم طعامهم في حينه. تفتح يدك فيمتلئ كل حيّ سروراً”.

يقول أحد معلّمينا، في معرض تعليقه على القول “بدّد وأعطى المساكين فبرّه يدوم إلى الأبد”، إنّ هذا يعني، بصورة خاصة، أنّ الحياة الأبدية بداءتها في الافتقار الذي يقتبله الإنسان طوعاً في معرض تبديده على المساكين جاعلاً رجاءه على الربّ الإله. العطاء من القلب، إذا كان كاملاً، يجعلنا في المحبّة الحقّ. والمحبّة لا تستر، فقط، جمّاً من العيوب بل كل العيوب. إن ثبت الإنسان في عمل المحبّة، في عمل العطاء ولم يملّ، لا يقيم، من بعد، ولا في خطيئة من خطاياه. إذا كانت المحبّة أقوى من الموت فهي، بالأوَلى، أقوى من الخطيئة، شوكة الموت. فإن غصبنا أنفسنا على العطاء للإخوة، على العطاء للمكسورين، للمضنوكين، للمتعبين – والمحبّة لا تأتي في أول الطريق إلاّ غصباً – فلا بدّ لهذه المحبّة، إذا ما ثبتنا فيها، إلاّ أن تفتح لنا سبل الفضيلة، وتطرح الخطيئة خارجاً. لا بدّ لها من أن تشرّع لنا أبواب الملكوت نقاوة.

إذاً، يا إخوة، ما دام أن العطاء مطلّ على الأبدية، فسبيل كل واحد أن يطالع إخوته من حيث هم هذا الباب الذي يطلّ منه على الملكوت. علينا أن ننظر إلى إخوتنا، لا سيما إلى الذين يعانون ويتألّمون، إلى الذين هم بحاجة للمسة حنان، لبعض الانتباه، من حيث هم نداء خلاص إلهي لنا أولاً. نلتفت إلى المضنوكين في هذه الدنيا، إلى المتعَبين، إلى المثقلين بالخطايا، إلى مَن قسا عليهم الدهر، إلى المحتاجين إلى يدّ تمتد إليهم، إلى قلب يلهف عليهم، إلى قليل من الصبر على ما يمكن أن يكون مزعجاً فيهم. كلّنا، في الحقيقة، مصدّر للإزعاج والقلق والقرف، قليلاً أو كثيراً، بين إخوته. ليس مَن هو خير من سواه. لكلٍ مخزونُ نجاسته. لذا نحن بحاجة، للخلاص، لأن نحمل أثقال بعضنا البعض ونتمّم شريعة المسيح. تمام شريعته أن يصير معنا وفيما بيننا، أن تتسيّد محبّته في كل أخذ ورد بيننا. من هنا أنّ كلاً منا لإخوته أمانة من الله، رسول من عنده، فقير إليه. كل منا، لإخوته، إيقونة للمسيح. فإذا ما كنّا لنكرّم الإيقونات الخشبية أو الحائطية في الكنيسة المقدّسة فمن باب أولى هذه الإيقونات الحيّة التي جعلها الربّ الإله شريكة لنا، مقيمة معنا.

جيّد، يا إخوة، أن يلاحظ كلٌّ نفسه حتى لا يمرمر إخوته لا سيما وأنّهم متمرمرون أصلاً من أمزجتهم الخاصة الصعبة وتُثقّل عليهم الخطايا التي تكثّفت في ثنايا نفوسهم، سنة بعد سنة. كل منا تاريخ جراح. فمَن تراه السامري الصالح الذي يحمل ذاك الذي وقع بين لصوصه الفكرية، لصوص النجاسة، لصوص الإثم، فجرّحوه وعرّوه وتركوه بين حيّ وميت؟ هذا الجريح هو كل منا، وهو بحاجة لإخوته يعينونه على نفسه بمثابة سامريّين صالحين. والربّ الإله الذي شاء لابن الثكلى أن ينهض يشاء لكل جريح أدمته الخطيئة أن ينهض من جراحه ليمجّد الله لأن نبيّاً عظيماً قام فينا وافتقد الله شعبه. ذاك النبيّ العظيم سامنا جميعاً أنبياء له، يعمل فينا ومن خلالنا لمقاربة أرملة كل نفس مات وحيدها، مات الحسّ فيها. ونحن قادرون، بنعمة الله، باسم الربّ يسوع، إذا ما سكبنا على الإخوة لطفاً وحناناً ومحبّة ودموعاً، أن نحيي ما مات فيهم وفينا أو نكاد ليكون بيننا فرحٌ ولتكون قيامة، ليرسخ المسيح في كياننا، معنا وفيما بيننا، بالروح والحقّ، تمجّد اسمه من الآن وإلى الدهر.

 

مجلة التراث الأرثوذكسي

Scroll to Top