التسليم الرسولى

التسليم الرسولى

 

تشتق الكلمة اليونانية Παραδοσις من فعل  (اسلم)Παραδιδωμι الذي يعني فاعلية النقل والإرسال بعيداً من يد إلى يد، ومن فمّ إلى فمّ، والتسليم المباشر من شخص لآخر. أما موضوع هذا النقل فيمكن أن يكون كلمات قيلت وأعمالاً شوهدت وعوائد عمل بها. وهكذا نجد أن الكلمة اليونانية والتي ترجمت إلى العربية بكلمة تقليد، لا تعني تقليد الأقدمين أي مجاراتهم ومحاكاتهم، بل هو الاستلام منهم بالتسلسل الوديعة التي سلمت اليهم. على هذا الأساس تصبح كلمة “تسليم” أصح وأقرب بكثير إلى المعنى الأساسي من كلمة تقليد. وإن شئنا الاحتفاظ بكلمة “تقليد” فيجب فهمها على أساس اشتقاقها من فعل قلّد بمعنى قلّده السيف أي جعل حمالته في عنقه، وقلّده العمل: فوض أمره إليه. أما فعل “أتسلّم” فيقابله باللغة اليونانية فعلΠαραλαμβανω “”

التسليم من الناحية العقائدية

إذا بحثنا عن تعريف للتقليد في الكتب اللاهوتية الأرثوذكسية فسنجد تعابير عدة تسلط عليه الضوء من زوايا  مختلفة هناك: “النقل الشفهي للحق المعلن” و”الذاكرة الحية للكنيسة” و”حياة الروح في الكنيسة”. التعريف الأول يشدّد على أساس (مصدر) التقليد الذي هو تعليم الرسل القديسين المنقول في البداية شفاها. الثاني يؤكد ملاصقة التقليد العضوية لحياة الكنيسة على الأرض وتطوره معها عبر العصور. الثالث يظهر المبدأ الفاعل في المحافظة على جوهر التقليد والمساعدة على استمرار حيويته وهو الروح القدس العامل في الكنيسة.

 

وعلى وجه العموم فالتقليد والتسليم هو الإعلان الإلهي والبشارة المسيحية التي تسلمتها الكنيسة بالروح القدس، كتابات مقدسة وصلوات، وفنونا، ومناهج حياة. ولنعد الآن إلى البداية لنحاول أن نتعرف على التقليد منذ نشأته.

تسليم إعلانات الله في العهد القديم

إن كان التقليد هو النقل الشفهي للحق المعلن، فهذا يعني أنه كان هناك تقليد وتسليم منذ أقدم الأزمان، لأنه يرافق بصورة حتمية إعلانات الله للبشر: المخفيات للرب إلهنا والمعلنات لنا ولبنينا إلى الأبد لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة (تثنية 29: 29). فالمعلنات إي ما أعلنه الرب من مجد وأفعال ومشيئة وشرائع ووصايا ليست فقط للجيل الذي تم الإعلان فيه بل ولجميع الأجيال التي تعقبه. وجميع رجال الله هم مسؤولون عن تسليم ما تسلموه من إعلانا إلهية لآخرين كي يحفظوها ويعملوا بها: “وتخبر ابنك في ذلك اليوم قائلاً من أجل ما صنع إليّ الرب حين أخرجني مصر، ويكون لك علامة على يدك وتذكارا وبين عينيك لكي تكون شريعة الرب في فمك” (خروج 13: 9).

 

التقليد إذن بالنسبة للإعلان الإلهي هو نقل هذا الإعلان أفقيّاً وعمودياً، أي للمعاصرين هؤلاء بدورهم إلى أبنائهم بالتسلسل من جيل إلى جيل. وهذا النقل قد تمّ أولاً بصورة شفهية وحياتية ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك، وقصها على أولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم واربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك وأكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك (تثنية 6: 6-9).

 

وأكبر دليل على هذا هو أن ما أعلنه الله بدء الخليقة حتى عهد موسى قد تمّ نقله بالتسليم الشفوي: “لأني (الله) عرفته (إبراهيم) لكي يوصي بنيه وبيته وبعد أن يحفظ طريق الرب ليعملوا برا وعدلاً لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلّم به”.

 

أما التوراة فهي ذاتها تسليم، وقد كانت جزءاً من التسليم الشفهي حتى أواخر عهد موسى حين أصبحت تسليماً مكتوباً. يطبق عليه ما يطبق على التسليم الشفهي من مسؤولية في حفظه وتطبيق تعاليمه: “وكتب موسى هذه التوراة وسلّمها للكهنة بني لاوي حاملي تابوت عهد الرب ولجميع شيوخ إسرائيل. وأمرهم موسى قائلاً في نهاية السبع السنين في ميعاد سنة الابراء في عيد المظال… أجمع الشعب الرجال والنساء والأطفال والغريب الذي في أبوابك لكي يسمعو ويتعلموا أن يتقوا الرب إلهكم ويحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة” (تثنية 31: 9- 12).

التسليم في العهد الجديد

نشأت كنيسة العهد الجديد وانتشرت، كما هو واضح من شهادة أسفار العهد الجديد، بفعل الكرازة الشفهية في جهات عديدة، وقبل أن تكتب هذه الأسفار: “وقال لهم اذهبوا في الأرض كلها، وأعلنوا البشارة للخليقة كلها… فذهب أولئك يبشرون في كل مكان والرب يعينهم…” (مرقس 16: 15- 19). هذا يعني، أنه كما حدث في العهد القديم، فإن التسليم الشفهي في العهد الجديد، وهو البشارة ذاتها المنقولة شفاها، وجد قبل الكتاب المقدس، لا بل قبل الكنيسة نفسها، إن جاز التعبير، حيث كان هو الواسطة المباشرة لتأسيسها وامتدادها.

 

الرب يسوع المسيح لم كتب شيئاً، بل كان كانت شخصيته غير المنفصلة عن كلامه وأعماله الإعلان الأعظم عن الله، ولذلك كان الإيمان قائماً بالدرجة الأولى على رؤيته وسماعه، “تعال وأنظر” (يو 1: 46) ثم فيما بعد بقبول شهادة الذين رأوه وسمعوه: “الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به” (1 يو 1: 3).

 

التقليد نشأ قبل الكتاب، لأن الله أراد بحكته أن يجعل حقائق الإعلان الإلهي تعطى شفاها لكي يسهل قبولها وتمثلها، لأنه لو أعطيت حقائق الإيمان منذ البداية كتابة لما انتشرت بهذه السهولة والقوة: “الإيمان بالسّماع بينما السماع بكلمة الله” (رو 10: 17).

 

المخلص نفسخ أمر رسله أن يكرزوا شفاها: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به”(متى 28: 19- 20) ولكن بمعنونة الروح القدس الذي سيلبسهم قوة من الأعالي (لوقا 24: 49) وهو روح الحق الذي يمكث معهم ويكون فيهم (يو 14: 17) ويعلمهم كل شيء ويذكرهم بكل ما قاله يسوع لهم (يو 14: 26).

 

هكذا لم تكن كتابات الرسل وحدها بالهام الروح القدس بل أيضاً كلامهم المنطوق: “وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة” (1كو 2: 4) “… ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس” (1كو 2: 12-13).

 

وهذه الفكرة يؤكدها كون كل الكنائس الأولى قد تأسست بناء على تبشير الرسل لها بفم ولســان.

 

ثم بعد ذلك حين كان الرسل يتركونها ليبشروا في مكان آخر كانوا يرسلون إليها رسائل مكتوبة إذا اقتضت الحاجة. الرسائل نفسها تظهر بوضوح أن الرسل لم يكتبوا سوى قسم ضئيل مما يريدون إعلام الكنائس به، مثلاً يوحنا الإنجيلي يعلن :”إذ كان لي كثير لأكتب إليكم لم أرد أن يكون بورق وحبر لأني أرجوا أن آتي إليكم وأتكلم فماً لفم لكي يكون فرحنا كاملاً” (3 يو 1: 12) و(3 يو 1: 13) أما بولس فيظهران اموراً كثيرة لا ترتب إلا بحضوره الشخصي: “وأما الأمور الباقية فعندما أجيء ارتبها” (1كو 11: 34). هذه القضية صريحة أيضاً في الأناجيل. يوحنا الحبيب يقول في إنجيله: “وآيات أخرى صنع يسوع لم تكتب في هذا الكتاب”(يو 20: 30) وهو ينهيه بهذه الكلمات: “وأشياء أخرى صنعها يسوع أن كتبت واحدة فواحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة” (يو 21: 25).

 

إن هذا التقليد المأخوذ عن الرسل مباشرة يسمى التقليد الرسولي الذي منه انبثق ما يسمى بالتقليد الكنسي. لقد عاصر هذا الأمر القديس أيريناوس أسقف ليون تلميذ بوليكاريوس تلميذ يوحنا الحبيب (القرن الثاني) ومن أجل ذلك كتب: “الرسل القديسون استلموا تقليدهم من المخلص، بنما الكنيسة استلمته من الرسل” بمعنى أن الرسل سلموا الوديعة للأساقفة الأول، وهؤلاء بدرهم للذين بعدهم وهكذا بالتسلسل، إلى هذا اليوم. المغبوط أغسطينوس الذي عاش في القرن الرابع يثبت هذا أيضاً : “كل التقليدات المحفوظة في كل الأرض أما هي متسلمة من الرسل ومن المجامع المسكونية”. التقليد الكنسي إذن هو في علاقة جداً وثيقة مع التقليد الرسولي ويكمل أحدهما الآخر. ولذا فعلامة التقليد الحق هي التواصل (عدم الانقطاع).

 

بناء على هذا الأساس يمكن القول بأن التقليد هو البشارة المكروز بها من الرسل إلى يومنا هذا، ولأجل ذلك كما قال العلامة العظيم اوريجانوس (180-255): “ويجب الاعتقاد فقط بذلك الحق الإيماني الذي لا يبتعد بشيء عن التقليد الرسولي والكنسي”.

التقليد والكنيسة

المسيح قد أتى ليؤسس كنيسة (متى 16: 18) لأن الكنيسة هي امتداد وغاية وقمة وملء كل عمل المسيح الخلاصي (أفسس 1: 20- 23 و3: 20-21). وما الكنيسة سوى جسد المسيح (كولو 1: 24) الذي يضم الأعضاء الذين آمنوا بالبشارة وتابوا فصارت لهم شركة مع الآب بالابن في الروح القدس (1يو 1: 3 و3: 24) بواسطة الأسرار الإلهية المؤسسة من الرب يسوع كالمعمودية (متى 28: 19-20) والميرون (أع 2: 33) وسر الشكر (متى 26: 26- 27) والمعطاة بالتسليم الكنسي. وفي الواقع فكل التسليمات الكنسية (التقليد) بما فيها الكتاب المقدس هي ثمرة لحياة الروح القدس في الكنيسة. ولذلك لا يمكن أن تُفهم وتُعاش خارج الكنيسة التي هي عمود الحق وقاعدته (1 تي 1: 15) والتي فيها يعمل الروح القدس ويوهب (1 كو 12: 28). من أجل ذلك يقول القديس إريناؤس : “حيث تكون الكنيسة هناك يكون روح الله”. ثم يتابع : “الهراطقة بما أنهم ليسوا في التقليد إذن ليسوا في الكنيسة، وعلى العكس لأنهم غير موجودين في الكنيسة ليس في التقليد ولا يعيشون في التيار الحي لروح الله”.

 

بين الكنيسة والتقليد إذن علاقة ديالكتيكية متبادلة، فالكنيسة هي التي تحفظ التقليد وتسهر على نقائه وحيويته، بينما التقليد يقوى الكنيسة إذ يشدها إلى تعليم وحياة المسيح ورسله وقديسيه، فيربطها بالمسيح الحاضر ابدا، موّحدا أعضاءها مع رأسهم، بالإيمان والمحبة والأسرار. وطالما بقيت الكنيسة فالتقليد باق. ولأن المخلص وعد الرسل بأنه سيبقى معهم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر (متى 28: 20) ” له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع اجيال دهر الدهور”. (أفسس 3: 21) فكنيسته الحية باقية. وبما أن المخلص طلب إلى الرسل تعليم جميع الأمم أن يحفظوا جميع ما أوصاهم به (متى 28: 11) بإرشاد روح الحق الماكث مع الكنيسة إلى الأبد (يو 14: 16-17) فقد حفظت الكنيسة البشارة دون انثلام واستمر تسلميها في كل المسكونة بالأساقفة المقامين من الرس مثل تيموثاوس وتيطس تلميذي الرسول بولس، واقليمس الروماني الذي عرف شخصياً القديسين بولس وبطرس والذي كان عنده التقليد الحي بمشاهدة العين، وبوليكاريوس الذي كان يعرف أشخاصاًَ كثيرين من رأوا المسيح، ووعظ دائماً بالأمور التي تعلمها من الرسل… وهؤلاء سلّموها بدورهم إلى خلفائهم وهكذا…

التسليم والكتاب المقدس

في الكنيسة الأولى لم تكن هناك ثنائية البتة بين ما كان يحمله الرسل وتلاميذهم من بشارة شفهية حياتية وبين ما سحلوه منها كتابة، فيما بعد، بحسب الاحتياجات الرعائية للكنائس، بصيغة رسائل وأناجيل وأعمال رسل الخ… فكل هذا مع أسفار العهد القديم كان محور تعليم وحياة الكنيسة التي كانت تتسلّمه وتسلّمه بأمانة بمعونة الروح القدس. وحين حاول الهراطقة التلاعب بهذه الأسفار، حذف وإضافة، حددت الكنيسة بلسان آبائها ومجامعها المحلية أسفار العهد القديم والجديد القانونية، معتمدة في هذا على التسليم الذي عندها مكتوبا كان أم شفهياً.

 

ولم تكتف الكنيسة بكتابة أسفار العهد الجديد، بل تابعت تسجيل بشارتها الحية بلسان رعاتها وآبائها وفنانيها القديسين، ومجامعها المحلية والمسكونية، بمختلف الوسائل المنسجمة مع ظروفها عبر العصور المتلاحقة التي عاشتها كالكتابة نثر وشعراً، والفنون المختلفة كالموسيقى والبناء والتصوير. كذلك لم تتوقف البشارة عن الانتقال بالتسليم الشفوي كالعظات والتعليم والصلوات والأسرار والحياة المشتركة والقدوة الحية، على نمط الكنيسة الأول. كما يشهد بذلك سفر أعمال الرسل: “وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات” (أع 2: 41). وبالطبع فاهم ما أعطته حياة الشركة في الكنيسة هو المسيح نفسه ومواهب الروح القدس، عبر الأسرار الإلهية بالتسليم. فهل من الممكن، بعد هذا، الحديث عن الكتاب المقدس والتسليم وكأنهما شيئان منفصلان مختلفان، أم أن هناك تسليماً واحداً حافظت عليه الكنيسة الواحدة وعاشته، بمختلف وسائل التعبير والحياة؟. والحقيقة أن الثنائية بين الكتاب المقدس والتسليم لم تطرح، كقضية لاهوتية إلا في القرن السادس عشر حين رفض المحتجون (البروتستانت) على كنيستهم الغربية، تقليدها بسبب عدد من التجاوزات والانحرافات، كصكوك الغفران، فاعلنوا وجوب الاعتماد على الكتاب المقدس وحده من خلال شعارهم اللاهوتي الشهير: “Sola Scriptura” أي “الكتاب المقدس حصراً”. وكان جواب لاهوتيي الحركة الباباوية المضادة للصلاح البروتستانتي هو وجوب الاعتماد على “الكتاب المقدس والتسليم”.

 

وبكل تأكيد فالصراع غير الموضوعي بين من حاول أن يطمس حقيقة التسليم ويشوهها وبين من حاول أن يؤكدها ويرفعها لكي يصبح التسليم كيان خاص إلى جانب الكتاب المقدس هو الذي أدى إلى بلورة هذه الفكرة في أذهان الكثيرين، وهو أنه يوجد مصدران للإيمان بينما الحقيقة الموضوعية هي أنه يوجد مصدر واحد هو التسليم الذي عبّرت الأسفار المقدسة الموجودة عن جزء أساسي ومهم منه، كما يشهد بهذا كُتّاب هذه الأسفار: “إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة، رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب التوالي إليك أيها العزيز ثيوفيلس” (لو 1: 1-4). تلك الأمور المتيقنة عن الكنيسة إذن، والمسلّمة منذ البدء من الرسل، والتي هي الأساس والمصدر هي ما نسميه بالتسليم. وبالطبع فبعد كتابة أسفار العهد الجديد صارت هذه أيضاً جزءاً مكتوباً من هذا التسليم ذاته ولهذا لا يمكننا أن نكتفي بالكتاب المقدس وحده، و نعزله عن تسليم الكنيسة ككل، وأن ننتزعه عن إطار حياتها، وهي جسد المسيح وحاملة مواهب الروح القدس، فنغرّبه عنها لكي لكي نفسره مزاجياً مدّعين مساعدة الروح القدس لنا، ونحن أنما تعكس مفاهيم عقلنا المنتفخ المحدود وأهوائنا البشرية.

 

وللتشديد على الارتباط العضوي بين الكتاب المقدس والتقليد نلفت النظر إلى نقطتين عمليتين تلقيان بعض الضوء على أهميته باقي التسليم بالنسبة للكتاب المقدس:

 

في التقليد أمور كثيرة تفيدنا حياتياً وروحياً لا توجد في الكتاب الإلهي بحضنا على التمسك بها الكتاب نفسه : “فاثبتوا إذن أيها الأخوة وتمسكوا بالتقليدات التي تعلمتموها سواء كان بالكلام أم برسالتنا” (2تس 2: 15). القديس يوحنا الذهبي الفم يعلق على هذا المقطع في تفسره لهذه الرسالة فيقول: “من هنا يتضح بأن الرسل بولس لم يعط الكل كتابة بل أعطى أشياء كثيرة بطريقة شفهية. والأشياء المكتوبة وغير المكتوبة هي مع بعضها قابلة للإيمان بها بحيث نعتبر أن تقليد الكنيسة مستحق للاعتقاد به”. في مكان آخر نجد الرسول بولس يمدح الكورنثيين من أجل محافظتهم على التقليد “فأمدحكم أيها الأخوة على أنكم تتذكرون كل شيء لي وتحفظون التقليدات كما سلمتها إليكم” (1كو 11: 2) (أنظر تس 2: 6، رو 6: 17، 1كو 11: 23، 15: 3-5 الخ…). ويوصي تيموثاوس أن يحفظ الوديعة (1تي 6: 20). القديس باسيليوس الكبير يوضح لنا ماهية هذه التقليدات فيقول: “بعض العقائد والكرازات قد حفظ في الكنيسة كتابة، والبعض الآخر عندنا إياه من تقليد الرسل إذ انتقل سريا، والاثنان عندهما نفس المعطيات، ونفس السلطة من أجل التقوى”… إلى أن يقول “إذا حاولنا أن نحذف العوائد غير المكتوبة لأنها ليست بذات أهمية لا ننتبه بأننا نسيء إلى البشارة في أهم أركانها ونجعل الكرازة الإنجيلية أماً لغير مسمى”… ثم يعطي أمثلة كثيرة على هذه التقليدات منها رسم أشارة الصليب، التوجه نحو الشرق حين الصلاة، كلمات استدعاء الروح القدس حين تحويل الخبز والخمر في سر الشكر، مباركة ماء المعمودية وزيت المسحة والمعمد نفسه، تغطيس الإنسان على ثلاث مرات إلخ… إلخ… القديس يوحنا الدمشقي يذكر أمثلة أخرى كرقاد والدة الإله وحضور الرسل في تلك اللحظة المجيدة. اغسطينوس المغبوط بذكر عماد الأطفار إلخ… إلخ… .

 

التقليد يساعدنا على فهم الكتاب المقدس بصورة صحيحة. (ويقول حبيب سعيد الأسقفي الأنجليكاني “إن المبدأ البروتستانتي الذي يصرح لكل أحد أن يفسر الكتاب المقدس حسب معرفته الشخصية قد منع امتداد الكنيسة، وقاد تابعيه إلى ما هو مضاد للأيمان المسيحي. فيجب أن نفتش على الإيمان المسيحي الحقيقي في الأجيال الأولى حيث كان اتساع العلم مقروناً بنقاوة التعليم فكل من يريد أن يتحاشى الغلط في الإيمان يجب عليه أن يلتجئ إلى الكتاب المقدس كقانون أول للأيمان ثم أيضاً إلى تقليد الأجيال الأولى لتفسير الكتاب. وذلك لأنه لما كان الكتاب المقدس غامض المعنى امتنع على الناس أن يتخذوا منه كلهم تعليما واحداً. فهذا يفسره بنوع ما، وغيره بنوع آخر مختلف عن الأول، فبين هذه الاختلافات وهذه التفاسير المغايرة بعضها بعضاً وجب أن التعليم العمومي تقوده شهادة التقليد” [كتاب الصبغة الخاصة للكنيسة ص287] ). وذلك لأنه يمكننا أن نسترشد:

 

بالتعليم القويم المحفوظ في التقليد، (كالعقائد المصاغة من قبل المجامع المسكونية) لا قتبال حقائق إيمانية -يعلنها الكتاب- لا يمكن ادراكه والتعبير عنها بشرياً، خصوصاً باعتمادنا المجرد على عقلنا الفردي.

 

بالتفاسير الكثيرة لأسفار عديدة من الكتاب، والتي حفظها التقليد عن آباء قديسين، بنوا معرفتها لا على مهارة شخصية في التحليل والشرح، بل على تمثلهم لتعليم الكنيسة المتوارث منذ البدء وعلى خبرة حياة روحية عميقة مع الله.

 

صفوة القول أن التقليد من جهة نظر أرثوذكسية يفسر الكتاب، كما أنه يكمل بعض نواح عملية فيه مثل الناحية الطقسية والقانون الكنسي. ولكن من الناحية العقائدية لم يثبت حتى الآن أي تكميل للكتاب المقدس من قبل التقليد، ونعني بهذا أن التقليد لم يضف أية عقيدة إلى ما ذكر منها في الكتاب المقدس. وما العبارات العقائدية الجديدة التي وردت في المجامع المسكونية وعند الآباء القديسين سوى توضيح، وتجديد لمفاهيم قضايا إيمانية أعلنها الكتاب بطريقة غير منهجية، وذلك لقطع الطريق أمام المبتدعين. أما الكتاب فيكمل بدوره محتوى التقليد ويفسّر لا بل يحكم على صحته. وهكذا يحفظ التسليم ككل الإعلان الإلهي ويساعد على جعله في التاريخ فاعلا ومحققا.

منابع التقليد

يشكل التقليد الإلهي والرسولي الرصيد العام لكل إيمان الكنائس الأولى، الذي بقى أساساً لدستور إيمان الكنيسة الجامعة كلها. ولقد ذكرنا سابقاً أن قسماً منه، وهو كتاب العهد الجديد، سجّل كتابة في زمن الرسل بالهام الروح القدس. بينما بقي القسم الآخر منتقلاً شفهي وبطريقة عفوية سرية. ثم بدأ يسجل بدوره تدريجياً بطرق مختلفة. إذ مرّ بعد الفترة الرسولية، في القرون الثمانية الأولى، بحالة بلورة وصياغة صائرا مع الكتاب المقدس معينا لا ينضب لحياة الكنيسة الإلهية في الزمن. وفيما يلي المصادر التي يمكننا أن نجد فيها هذا التقليد:

 

دساتير الإيمان: وهي شروحات قديمة مختصرة للإيمان مبنية على أساس كتابات الرسل وتقليدهم، كانت تستعمل في الكنيسة الأولى من أجل التعليم، حين المعمودية. وقد كان لكل كنيسة محلية في البداية دستور خاص، والخلاف بين هذه الدساتير كان في الشكل لا في المضمون. ثم بدأت هذه الدساتير تأخذ بالتدريج شكلاً واحداً، إلى أن تحدد دستور إيمان واحد لكل الكنائس في المجمعين المسكونيين الأول (325) والثاني (381).

 

القوانين الرسولية الخمس والثمانون: هذه القوانين لم يكتبها الرسل أنفسهم، لكنها تحتوي على ترتيبات كنائسية مأخوذة عنهم.

 

التحديدات العقائدية والقوانين الكنائسية للمجامع المسكونية السبع، والمجامع المكانية التسع

 

كتب الخد الطقسية: نستطيع أن نجد فيها تعليم الكنيسة مبسطاً في صلوات وتراتيل، كما أنها تتطرق إلى مختلف مظاهر حياة الكنيسة الدينية والاجتماعية.

 

سير الشهداء: أهم ما يعنينا في هذه السير هو اعترافات إيمان الشهداء قبل استشهادهم.

 

تاريخ الكنيسة: لقد كتب مؤلفون قدماء كثر عن الأحداث التي لفت انتباههم في مجرى حياة الكنيسة على الأرض. ما يهمنا في هذا المجال بصورة خاصة تاريخ الهرطقات والأسباب التي أدت إلى عقد المجامع وبالتالي صياغة العقائد.

 

كتابات الآباء القديسين: وهي تراث ضخم ومتنوع ذو قيمة روحية عالية، كتبه عدد كبير من رجالات الكنيسة الذين استخدمهم الروح القدس لقيادتها عبر مختلف عصورها.

 

الآثار المسيحية: ويقصد بها الأعمال الفنية القديمة المعبّرة عن تقليد الكنيسة من عمارة وموسيقى وأيقونات إلخ …

 


الكنيسة الأرثوذكسية تسدد بصورة خاصة على أهمية :

 

التحديدات العقائدية للمجامع المسكونية السبع.

 

كتب الخدم الطقسية

 

كتابات الآباء القديسين

حيوية التقليد

الواقع أن الكنيسة ومنذ البداية، لم تحتفظ بتقليدها الرسولي كتراث جامد بل استعملته ليس فقط كقاعدة للإيمان ولتفسير الكتاب المقدس بل أيضاً كوسيلة بناءة تساعدها في مجابهة الصعوبات التي تعترضها، والتأقلم فيما يتعلق بحياتها الخارجية مع الزمان والمكان بحسب تلك السلطة المعطاة لها من السيد والمسماة التدبير.

 

هكذا استطاعت، عامة، اتخاذ المواقف التي تثبت قدرتها على التصرف بحسب مواهبها الممنوحة، وظهر تقليدها حياً نابعاً من تمخضها ومعاناتها من أجل تطابق إيمانها مع ترتيباتها الخارجية كالطقوس والقوانين الكنسية.

 

لهذا يمكن القول أن التقليد لم يتوقف عند موت آخر الرسل، ولا عند انتهاء آخر مجمع مسكوني، بل استمرت الكنيسة في تمثل الجوهر الإلهي فيه. لذلك مع تشديدنا على أهمية الفترة الرسولية وما تلاها في زمن المجامع المسكونية من بلورة لعقائد الكنيسة وقوانينها، نستطيع القول أن التقليد لم يجمد بعد هذه الفترة ولا يجب أن يجمد. لأنه ليس فقط حق لكل مسيحي أن يحيا ويعبّر بطريقة عصرية، بل هو واجب أن يكون له دور رئيس في تطوير المجتمع الذي يحيا فيه نحو الأفضل. هذا يحمّل الكنيسة كلها رسالة مجابهة العصر بطرق تتلاءم مع متطلباته، مجيبة عن مشاكله وتساؤلاته انطلاقاً من الحقائق الإيمانية المحفوظة عندها.

 

في القرون الثمانية الأولى استطاعت الكنيسة الجامعة التغلب على الهرطقات والشقاقات التي انتشرت في ذلك الزمن معلنة عقائدها الصحيحة عبر المجامع المسكونية، وكذلك إن تنظيم حياتها وإدارتها وصلواتها بشكل يتناسب مع واقع تلك العصور. وبعد توقف آخر مجمع مسكوني (787)، وكذلك بعد الانشقاق الكبير في القرن الحادي عشر تابعت الكنيسة الشرقية الطريقة ذاته الذي سارت عليه الكنيسة منذ البداية رغم الظروف القاسية التي مرت على أقطارها. ولهذا استطاعت كنيستنا الأرثوذكسية الحفاظ على نقاوة التعليم المأخوذ عن المسيح والرسل، وعلى الوحدة غير المنثلمة لكنائسها (رغم استقلالها الإداري). كذلك وصلت التوسع في المجال الطقسي والشروحات الكتابية والترتيبات القانونية معتمدة سلطتها على التدبير كصمام أمان، ليس فقط مع التقليد المحفوظ، بل وحتى مع الأناجيل نفسه (مثال القسم في المحاكم والطلاق). أما بالنسبة للعقائد فلقد استمرت الكنيسة الشرقية في عيش وشرح وتعميق وتقديم الإعلان الإلهي بطريقة تنسجم مع الأسئلة الجديدة التي نشأت في سيرتها الحياتية. هكذا ثبتت الكنيسة عدد الأسرار السبع، كذلك عقدت عدة مجامع أرثوذكسية للنظر في قضايا إيمانية نشأ خلاف حولها، مثل قضية السكينة والقوى الإلهية غير المخلوقة. أما في الظروف الصعبة التي كانت تمنع عقد مثل هذه المجامع فقد كان يكفي إجماع آراء الكنائس الأرثوذكسية لاقتبال حق إيماني وحياتي على أساس موثوق من الكتاب المقدس والتقليد الشريف. كما ظهرت عدة اعترافات إيمان تشرح وتحدد العقيدة الأرثوذكسية في العصور التي تعرضت فيها الكنيسة الشرقية لضغط شديد من الكاثوليك والبروتستانت. مثل اعتراف إيمان المطران بطرس موفيلا الذي قدمه في مجمع باش (1942)، ووافقت عليه سائر الكنائس الأرثوذكسية.

 

نتيجة لما سبق يجدر بنا أن نشدد من جديد على أن الذي يتغير في التقليد ليس جوهر الإيمان ولا الشريعة الأدبية اللذين لا يعرفان زيادة ونقصانا، بل أوضاع الكنيسة الخارجية المتصلة بأمور زمنية. وحتى هذه يجب أن تتبدل وتتغير بموجب سلطة شرعية عليا كي يبقى كل شيء منسجماً مع إرادة الله والجماعة الواحدة الممثلة بسائر الكنائس الأرثوذكسية.

العوامل المساعدة على استمرار حيويته

عديدة هي العوامل التي تساعد على تطور التقليد مع الحياة. والذي نعني به بصورة خاصة التمثل المتعمق أكثر فأكثر للحقائق الإلهية وعيشها بطريقة متناسبة مع تطور الزمن. فبالاضافة إلى دور الله العامل بروحه القدس في الكنيسة والذي ينير دربها كي تستطيع أن تحفظ لتعليمها حيوية وصحة محتواه هناك التفاعل البشري والممثل بالعوامل الآتية:

 

الشعب الحسن العبادة:

 

من خلال الاشتراك الصحيح في حياة الكنيسة (صلوات، أصوام، أعياد، اقتبال الأسرار الإلهية، قراءات روحية، محبة القريب إلخ…) تحصل إمكانية اللقاء الحي مع الله وبالتالي غنى الفهم المتجدد للتعاليم الإلهية. هذا الأختبار الروحي للبعض ينعكس بدوره على باقي أعضاء الجسد الواحد فيقوي استعدادهم الداخلي لتقبل إعلان الله وعيشه بطريقة أقوى وأعمق. وطبعاً معرفة الشعب المؤمن هي غالباً من النوع الحياتي لا النظر والتي تتطور عند البعض إلى درجة من الاستنارة الروحية تؤهلهم لفهم الحق الإلهي كيانيا. هؤلاء يعرفون عن عالم الله غير القابل للإدراك أكثر بما لا يقاس من لاهوتي متعلم. القديس أنطونيوس الكبير الكبير وغيره كثر، أمثلة صارخة عن “جهالة الله الأحكم من الناس” (1كو 1: 25). حتى لقد استطاع بعض العائشين بالصلاة مع الله أبراز تعاليم لم تكن واضحة كفاية في الإعلان الإلهي، كمثال على ذلك، “قوى الله وأفعاله غير المخلوقة”.

 

صحيح أنه في المجامع كان بعض الأساقفة محاطين باللاهوتيين المتعلمين الذين ساعدوا في صياغة مقررات المجامع في عبارات. إلا أن مضمونها عيش وبلور أولاً بين أبناء الشعب المؤمن وخاصة القديسين منهم الذي رأوه روحانياً بعين الإيمان، ولهذا دافعوا عند لدرجة قبول الموت والاضطهاد. دور اللاهوتي كان أن يصيغها بطريقة أقرب ما تكون للإدراك من قبل العقل.

 

الاضطهادات والهرطقات

 

الاضطهادات الموجهة ضد المؤمنين محاولات لابادة جسد المسيح، أما الهرطقات فهي تمزيق له من الداخل. ومع ذلك فلهذه ولتلك كما للمهاجمات التي  تحصل من قبل بعض الفلاسفة و المتعلمين دور إيجابي في إثارة حماس أبناء الكنيسة وتنقية إيمانها، ودفعهم للتضحية والشهادة الأكثر عمقاً وواقعية. وكما هو معروف فان أهم الأسباب التي أدت إلى عقد المجامع المسكونية يرجع إلى الرغبة في استئصال سموم الهرطقات التي تفشت في ذلك الزمان.

 

المدارس اللاهوتية:

 

ترجع المدارس القديمة كمدرستي أنطاكية والإسكندرية إلى القرون الأولى للمسيحية، وقد أنشئت لغرض الوعظ والتعليم، ثم تطورت مع الزمن لتأخذ طابعاً منهجياً لاهوتياً. ولم يكن معلمو هذه المدارس حافظين وناقلين لتقليد تلك الفترات فحسب، بل كانوا أيضاً يشددون على أهمية بعض التعاليم، ويلفتون الانتباه لروعة بعضها الآخر. لا بل يمكن القول أنهم هم الذين كانوا يؤمنون غالباً التعابير الضرورية للمناقشات اللاهوتية التي كانت تدور على مستوى الشعب كله، وبالتالي يساعدون على تعميق وصياغة التعاليم المسيحية قبل أن تحدد نهائياً في المجامع. وحتى الآن لا تزال المدارس اللاهوتية بمثابة المخابر التي فيها تناقش وتتحضر وتتشكل مواد المعرفة المسيحية المنقحة على الحياة المعاصرة. وذلك نظراً للعلاقة الوثيقة بين الشعب الحسن العبادة وبين هذه المدارس.

 

المجامع المسكونية:

 

للمجامع المسكونية الدور الأكثر أهمية، لأنها الصوت الناطق للكنيسة وسلطتها العليا المعبرة عن تعليمها العقائدي الأصيل، ولهذا لا يمكن أن تتضارب قراراتها مع تقليد الكنيسة ولا تسقط، كما حدث بالنسبة لعدة مجامع غير شرعية. في جواب البطاركة الأرثوذكس على كتاب البابا بيوس التاسع سنة 1848 نقرأ: “عندنا لم يستطع أحد لا البطاركة ولا المجامع أن يدخلوا أموراً جديدة، لأن المدافع عن الديانة هو جسم الكنيسة أي الشعب نفسه، الذي يريد أن تكون ديانته أبديا غير متغيرة كما آباؤه أيضاً”.

 

المجامع المحلية:

 

هي السلطة التنفيذية العليا للكنيسة المحلية، التي تدافع عن حقائق الإيمان. إذ باستطاعتها أن تفوز كل من ينحرف عن استقامة العقيدة اكليريكياً كان أم علمانياً، وأن تسهر على جعل تعليم الكنيسة وتقليدها حياً معاشاً.

الرد على الرافضين

يتلخص تعليم الكنائس البروتستانتية بشأن الكتاب المقدس بما يلي: “ان كلام الله المتضمن في العهد القديم والجديد هو القانون الوحيد الإلهي المعصوم للإيمان والعمل” ويعنون بهذا:

 

“أن أسفار العهدين هي كلام الله المكتوب بالهام الروح القدس، وأنها لذلك معصومة من الغلط ولها سلطان إلهي.

 

انها تتضمن كل ما أعلنه الله دستوراً دائماً للكنيسة وللإيمان والعمل.

 

انها واضحة حتى يقدر الشعب أن يفهم منها كل ما هو ضروري للخلاص باستعمال الوسائط المعهودة وبمعونة الروح القدس دون احتياج مفسّر أرضي معصوم”.

 

معنى هذا الكلام الرفض الضمني للتسليم وتجريده من أية سلطة وفائدة، وهو ما يتعارض مع تشديد الكتاب المقدس على أهمية التسليم كأساس ومصدر، بحسب ما أوضحنا. وكذلك مع سلطان الكنيسة المؤسسة من الرب يسوع والمقادة من الروح القدس أي قواعد الإيمان والعمل حين تدعو الحاجة.

 

وبخصوص الكنيسة، فلان البروتستانت يعتقدون بعصمة الكتاب وحده، وأنه كاف ليفسر نفسه بنفسه، يعتقدون بمبدأ تفوق الكتاب على الكنيسة. ويبررون ذلك بأنه لو قلنا العكس لخفضنا من قيمة كلمة الله أمام الكنيسة أي من قيمة الله أمام البشر.

 

وللجواب على الفكرة الأخيرة نقول أنه لا مجال للحديث عن مفاضلة من هذا النوع بين الكتاب والكنيسة ولا حتى للحديث عن الكتاب خارج الكنيسة، لأن ما أعلن عنه الكتاب يحيا في اطار شركة جسد المسيح أي في الكنيسة، ولأن الكنيسة هي السلطة التي كتبت الكتاب، والسلطة التي انتخبت بواسطة آبائها ومجامعها المحلية أسفار العهد الجديد من بين كثرة من الكتب المتداولة في ذلك الحين، مؤكدة صدق فحواها وحقيقة كتابتها مباشرة من الرسل والإنجليين، والسلطة التي سهرت دائماً على نقاء التعليم واستقامته، لأن الروح الذي فيها هو بالضبط الروح الذي نطق بالأنبياء والرسل والهم كتّاب العهد الجديد. وهنا نذكر بان المسح آتى لكي يؤسس كنيسة، وبالتالي فالكتاب جعل من أجل الكنيسة، وليس العكس.

 

ومن الواضح أن البروتستانت رفضوا سلطة الكنيسة التي يتكلم فيها الروح، لأنهم كانوا في صراع مع كنيستهم الكاثوليكية التي أعثرتهم بتجاوزاتها وتسلطها. ولا ضطرارهم أن يقبلوا بشهادة كنيسة القرون الأولى عن قانونية الأسفار المقدسة، فيتحججون بأنهم لم يأخذوا قانون الكتاب المقدس من كنيسة رومية التي كانت في القرن السادس عشر ولا المعاصرة لهم، وبأن وظيفة الكنيسة بشأن الأسفار المقدسة تنحصر في المحافظة عليها والشهادة لها ولا تمتد إلى العصمة في تفسيرها. ولكن المشكلة الكبرى هنا أن البروتستانت يحددون سلطة الكنيسة بالطريقة التي تلائمهم ويرفضون منها ما لا يعجبهم كما يجعلون سلطانها وعصمتها يسريان على القرون الأولى، ثم يخفّان و يتوقفان بالنسبة للقرون التي تلتها بحجة ضلاله وانحرافها. فإذا قبلنا بوجهة النظر هذه، أي أن كنيسة المسيح ككل ضد ضلت بعد القرون الأولى، ألا يعني هذا أن أبواب الجحيم قد قويت عليها (متى 16: 18)؟ وأن المسيح قد تركها وتخلى عنها (متى 28: 20)؟ وأنها لم تعد عمود الحق وقاعدته (1تي 3: 15)؟ وأن الروح القدس قد عجز عن إرشادها ومساعدتها (يو 14: 17 و16: 13)؟ وأن الله قد سحب من الكنيسة السلطة التي أعطيت لها (متى 28: 18-20 ويو 20: 21-23 وأف 3: 21)؟؟؟

 

ولكي نتخلص من تناقض هذه الأسئلة الواضح مع إعلان الكتاب الذي يحتكم إلي البروتستانت الا يكون من الأجدى ا أن نسأل: الا توجد كنائس آخرى على الأرض غير كنيسة الغرب البابوية؟ وأليس من الممكن أن تكون من بين هذه الكنائس من حافظت على استقامة رأي الكنيسة الأولى؟؟؟ ولعل من أسباب تركيز المصلحين البروتستانت المتطرف على الكتاب وحده، هو اهمال كنيسة القرون الوسطى الغربية له، ومنعها الشعب عملياً من قراءته، لسماحها بطباعته فقط في اللغة اللاتينية التي لا يفهمها. وفي هذا اختلفت أيضاً الكنيسة البابوية عن كنيسة الشرق الأرثوذكسية التي كانت دائماً تحبذ وتشجع شعبها على قراءة الكتاب المقدس. والدليل أنه كان عادة، وكتاب يترجمه مرسلوها إلى لغات الشعوب المتنصرة حديثاً.

 

أما من جهة وضوح الكتاب المقدس وقدرة الشعب على فهم كل ما هو ضروري لخلاصه بمعونة الروح القدس، فالكتاب نفسه يشهد أن في أسفاره أشياء عسرة الفهم يحرّقها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب لهلاك أنفسهم (2 بطر 3: 16). وبما أنه يوجد كثيرون من غير العلماء وغير الثابتين، ويوجد في الكتاب الكثير من الأشياء العسرة الفهم، ترجع ليس فقط إلى صعوبة أساليب بعض كتّابه، وإلى الجهل بالبيئات والظروف التي كتبت فيها أسفاره بل وإلى السمو اللامتناهي للحقائق الإلهية التي يعلنها. فمن البديهي أن يقول أي قارئ للكتاب المقدس مع الخصي الحبشي عندما سأله الشماس فيليبس: “العلك تفهم ما أنت تقرأ، فقال كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد” (أع 8: 31).

 

بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسة، التسليم القويم وتعليم الرسل والمعبر عنه عبر العصور بمختلف الأساليب المتلائمة مع احتياجات المؤمنين هو مفسر الكتاب ومكمله، وبالتالي فهو مرشد كل راع وكل مؤمن، إلى معرفة أسرار الخلاص بمعونة النعمة الإلهية التي تعطى عبر الحياة (حياة الإيمان والجهاد) في الكنيسة الحاملة لمواهب الروح القدس.

 

وأكبر برهان على عدم كفاية الكتاب المقدس لتفسير نفسه بنفسه، وأن الإنسان يخطئ فعلاً في فهمه دون إرشاد سليم ودون حياة روحانية كنسية أصيلة، هو خلاف الفرق البروتستانتية فيما بينها في تفسيره، ليس فقط على امور ثانوية، بل على قضايا أساسية تتعلق بالخلاص مثل التعيين والمسبق وغيره. هذا عدا عن الهرطقات الخطيرة التي وقعت فيها بعض الفرق والتي يصفها البروتستانت انفسهم بالبدع كالسوسينيين والمورمون وشهود يهوه إلخ… كما أن اضطرار الفرق البروتستانتية لاتخاذ دساتير إيمان منذ البداية وهو ما يتعارض مع مبدأ الحرية في تفسير الكتاب المقدس لهو دليل آخر على أن الكتاب بحاجة لمرشد في التفسير، وإلا لما استمرت هذه الفرق ذاتها في الوجود. وهو ما يحدث فعلاً، حين يبطل التشدد عن فرقة ما في المحافظة على دساتير إيمانها، فتعطي الحرية أكثر للأفراد في التفسير فتنشأ فروع جديدة لهذه الفرقة، وهو ما يفسر التوالد غير المتوقف لفرق وشيع جديدة عند البروتستانت

Scroll to Top