الدعوة، الأكذوبة والقتل.
نتأمل الليلة بثلاث كلمات كي ننطلق منها إلى أبعد.
1- الأكذوبة
2- الدعوة
3- القتل.
ما علاقة هذه الكلمات ببعضها البعض.
نبدأ بالكلمة الثانية التي هي الدعوة، وسنرى لماذا سَمّيتُ الأكذوبة في الأول.
الدعوة :
في قصة الخلق الأولى هناك دعوة. الله يستعمل كلمة دعا، بمعنى أعطى إسم أو سمّى “سمّى الله النور نهاراً، والظلام سمّاهُ ليلاً” أو دعاه، كما يقول الملاك لمريم “تدعين اسمهُ يسوع”… ويقول ليوسف في الحلم “يدعى عمّانوئيل”…الله سمّاني إنسان ودعاني.
والدعوة دائماً تفترض طرفين. احد يدعو واحد يُدعى. والجميل في اللغة العربيّة أنّ كلمة دعوة حسب موقعها لها أو معنى Appel = vocation، أو معنى Invitation الدعوة مثلاً إلى لقاء. والدعوة هي الإثنين.
الله، عندما دعا الإنسان من اللاشيء إلى أحد وليس إلى شيء، لم يدعُه كي يكون لوحده، لأنّ الله بذاته ليس لوحده وليس قادراً أن يكون لوحده لهذا الله بذاته، آب إبن وروح قدس، قال لا يجب أن يكون الإنسان لوحده، فلأصنع له عوناً…
لكن هناك أشياء مهمّة جداً. فالله دعاك وأعطاك الفردوس، دعاك إلى الوجود واشركك في الوجود.
هذا الذي دعاك إلى الوجود يدعو ذاته لعندك وينزل ويتمشّى معك في الجنّة بنسيم النهار، وانتَ تأكل من فاكهة الجنّة، وتحصد قمحها، يتمشّى معك يدعو نفسه إلى عندك ولا يسألكَ إذا كنت عريان أم مكتسٍ، تعب أم مرتاح، تريده أو لا تريده، يدعو نفسه لعندك لأنّه يحبّكَ. ويوم تدخل في الكذبة الشبيهة بكذبة آدم، الكذبة الأولى، لا يلغي دعوته لعندك بل يأتي. ولا يسألك لماذا أنتَ عريان ولا يسأل لِما أكلتَ من هذه الشجرة، يقول لكَ لماذا أتيتُ ولم أجدَكَ… كل الحكاية، حكاية لقاء. أنا دعوتكَ من اللاشيء إلى الأحد لأبقى التقيك… لماذا اختفيت… تُجيب، أنا عُريان… ومَن قال لكَ هذا… مَن قال لكَ أنّكَ خاطئ، أنتَ أكلتَ…
الكذبة الأولى نتكلّم عنها على صعيدين:
الكذّاب الذي يتّهم غيره بالكذب.
والكذّاب الذي يوقع غيره بالكذب.
– الذي يتّهم غيره بالكذب. “لَن تموتا، إنّما الله عالمٌ أنّكما يومَ تأكلا منها تنفتح عيونكما، وتصيران كآلهة، عارفين الخير والشرّ”، قال لكم تموتوا إذا أكلتم، قال، كذّاب، لا يريدكم أن تصيروا مثله: أول كذبة، جعلت من الذي دعا الإنسان من اللاشيء إلى الأحد، من الموت إلى الحياة، جعلته كذاب ويريد الموت للناس. الكذاب لا يستطيع حماية نفسه إلا عندما يتّهم كلّ الناس بكذابين مثله وكَذّبَ الله.
ونحن نسأل أنفسنا، أليست كلّ خطيّة نرتكبها إعلان أنّ الله كذاب؟
كل فعل خطيئة هو تكذيب لله! وكل فعل خطيئة في النقطة الثانية هو إتّهام للآخر.
أحد آخر متّهم. “لعلّكَ أكلتَ من الشجرة التي نَهيتُكَ أن تأكُلَ منها؟… “المرأة أغوتني فأكلت” . وهي قالت “الحيّة”….!!! والذي صدقَكَ، صدّقتَ غيره، والذي دعاك من اللاشيء لتصير أحدا والذي دعاك لتعيش معه اللقاء والوحدة، يوم الذي قبلتَ أن تقتَنع أنّه كذّاب، غريب ماذا حلّ بكَ؟ وليس فقط انكسر اللقاء بينك وبينه، لكن انكسر اللقاء بينك وبين الآخر.
وإذا كانت الظروف تفرض عليك أن تكون مع الآخر، أنظر ماذا تُصبح الظروف…
يا آدم، معركة بينك وبين الأرض لا تنتهي، أنتَ بعرق جبينكَ تأكل خبزك، وأنتِ تنقاد أشواقكِ إلى رجلكِ وهو يسود عليكِ. ماذا يعني هذا، إنعدام اللقاء، لا حريّة، سيّد وعبد. ولا تظنّوا أنّ السيّد حرّ. السيّد يبقى خائفاً من ثورة العبد. هذه الكذبة الأولى التي هي نموذج لكلّ كذبة نعيشها في كلّ خطيئة، نرى أبعادها ونرى كيف هي تماماً نقيض الدعوة.
ثم كلام الربّ للحيّة جميلٌ جدّاً: “أجعل عداوة بينكِ وبين المرأة”. أي بكل بساطة أؤكّد ما أنتِ فيه. لو لم تكوني عدوّة لهذه المرأة لما كذبتِ عليها هذه الكذبة، لكنّ الكذب لا ينتصر…
نسل هذه المرأة التي أنتِ كذبتِ عليها سيسحق رأسك، نسلها سيقتلكِ.
إذاً مع آدم وحواء بدأنا بفكرة القتل المعنوي. حوّاء قتلت آدم عندما جذبته نحو الثمرة وآدم قتل حواء عندما اتّهمها… والحيّة قتلت الإثنين.
الكذبة تقتل وأول ثمرة من علاقة هذان الكذّابان أخوة أثنين واحد منهم قتل الآخر.
لعبة الكذب أدخلتنا في لعبة القتل.
والذي دعا الإنسان من اللاشيء إلى الأحد وتعوّدَ أن يتمّشى معه بنسيم النهار، أتى مثل العادة ليتمشّى معه، والكذّاب أب الكذابين جعل الذين مشوا معه بالكذبة يقولون عن الإله أشياء لم يقلها، وأنّه كذاب وإنّه ادّعى ولم يدّعي ويقتلوه..
هذا القتل الذي بفعل الكذبة الأولى طال الإنسان من الأول، هو ذاته طال الإنسان الأكمل يسوع المسيح، الله بالذات. هذه الكذبة الأولى وصل مفعولها إلى قتل الله… وعرّوهُ ليقتلوه.
هم اختبأوا بسبب عريهم، هوَ صلبوه عرياناً على قمّة جبل.
كلمتين على الصليب مهمّتين جدّاًً:
إغفر لهم يا أبتي لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون.”… لماذا ضاعت البوصلة، الكذب يضيّع، الكذب مشكلته أنه يأتي يوم ونظنّ أنّه الحقيقة، وأنّ كل ما حوله هوَ كذب…
كذبة الفريسيّين هي الحقيقة وحقيقة يسوع هي الكذبة
كذبة رؤساء الكهنة هي الحقيقة وحقيقة يسوع هي الكذبة…
لكن في النهاية هناك القيامة. هذا الذي قتله الكذب قام حقّاً وأظهرَ أن الحقيقة أقوى من الكذبة وأنّ الحياة أقوى من الموت. والآن أتى يقول لكَ، كما حرّرتُكَ من اللا شيء وعملتُ منكَ أحداً… لا أقدر أن أقبل أن شباك الكذب تدخلكَ في بحر الموت وتكون أنتَ عاجر. تعرف الحقّ والحقّ يحرّركَ من براثن الموت، من شباك الموت، من القبر المعتّم. لا تخاف…
وعاد يقول لنا. مات الاتّهام.
لا تقول بعد، المرأة التي أعطيتني أياها أغوتني، لأنّ في النهاية عبر المرأة والرجل، عبر قايين وهابيل الذي أعطيتكم… أنا في النهاية أهيئّ عطيّة أخرى، لأصل إلى يوم أقول لكَ… أبذلُ نفسي في سبيل مَن أحبّ.
خذوا كلوا هذا جسدي، خذوا اشربوا هذا دمي….
حرام البعض من أخوتنا البروتستانت من ينكرون الحضور الحقيقي، وكم يفقّرون هذا القربان، وكم يفقّرون حقيقة العطاء والحقيقة التي تحرّر. مساكين، يا ليتهم يعودون ويكتشفون هذه النعمة الكبيرة التي اسمها “القربان”.
إذاً هذا الذي دعاك في يوم من الأيام وقال لن تكون لوحدك، لأنّي أنا لست وحدي، آب، إبن وروح قدس، عاد ليقول لكَ: أنا الكرمة وأنتم الأغصان، أنا الرأس وأنتم الجسد، عاد ليختار إثني عشر تلميذ سمّاهم رسل مكان الإثني عشر سبط الذين كانوا محصورين بنسلٍ معيّن ليقول أن كلّ الناس صاروا شعبي، وعمليّة التحرير، تذكّروا، اخرجهم من أرض مصر، وسيّرهم في الصحراء ووعدهم بالمن وقال لهم كل يومٍ بيومه، مهما كثرت الخيرات في البريّة لا تأخذوا أكثر من حاجاتكم. ولمّا كثّرَ الخبز وأكلوا كلّهم، قال لمّوا الفتات لكي لا يضيع منها شيء. غريب لماذ اليوم يقول لا تضيّعوا شيئاً.
أجيب، يقول لا تضيّعوا شيئاً، لأنّي أنا أعطيت ذاتي واكثر من هذا لا استطيع أن أعطي. ليس هناك عطيّة ثانية، صارت عطيّة تُعاش كلّ يوم. تكفي العالم كلّه. أعطيتكم ذاتي، والمهم بهذا الجسد سأجمع أبناء الله المشتّتين إلى واحد وأزورهم، اتمشّى معهم بنسيم النهار ولا أريد أن ارى آدم يتّهم حواء، ولا قايين يقتل هابيل ولا بشريّة تقتل الله.
فحص ضمير:
نأخذ فترة عشر دقائق، يسأل كل واحد نفسه أين هي الكذبة الأولى في حياته، وأين هو يسوع الذي قتله، ويسأل نفسه كيف بلحظة شعر بالخجل، وبلحظة تحرّر عندما يسوع قال له، “خذ وكل هذا هوَ جسدي”.