الصوم قيمة روحانيه
جاء في الرسالة إلي كورنثوس:نظهر أنفسنا في كل شيء ,أننا خدام الله,في صبر كثير,في الشدائد,في المحن,في المشقات,في ضربات الجلد,في السجون في الاضطرابات,في الأتعاب,في الأسهار ,في الأصوام.2كونثوس6:5,4في أتعاب وآلام في أسهار مرارا كثيرة,في جوع وعطش ,في أصوام مرارا كثيرة في برد وعري.2كورنثوس11:27.
في تلك النصوص المقدسة يذكر القديس بولس بعض الآلام والشدائد المختلفة التي كان عليه كرسول للمسيح أن يعانيها,في حياته الخاصة كمسيحي,وحياته العامة كخادم لله وكرسول للمسيح,عليه تبعات الرسالة المقدسة التي أوكلها إليه المسيح وهي تقتضيه نوعا من الكفاح الخاص.
وما يقال عن القديس بولس الرسول كرسول للمسيح يصدق أيضا علي بعض الخدام المكافحين عامة.كما يصدق إلي حد ما علي حياة القلة الممتازة من المسيحيين القديسين,فحياتنا في المسيح ليست حياة عبث أو حياة لهو.وإنما هي حياة كفاح ونضال من أجل أن يصل الإنسان إلي مراتب عالية في الفضيلة,ويرتفع إلي مستوي رفيع,كما يليق به كمسيحي كما يجب أن يكون,لأننا نحن كما نعلم قد خلقنا علي صورة الله ومثاله فلابد أن نكون في هذا المستوي مماثلين لله,مشابهين له.هذه العملية,عملية المشابهة المستمرة,عملية الاجتهاد أن نكون متمثلين بالله,وأن نكون مقدسين فيه علي غرار قداسته وعلي غرار الكمال الذي فيه ..ليست عملية سهلة إنها تقتضي أن يأتي الإنسان في كثير من الأحيان أمورا مضادة لطبيعته الذاتية.تقتضي الإنسان أن ينكر نفسه,وأن يكفر بشهواته وميوله ورغباته,هذا الكفران بالنفس وبالشهوات تضحية لا يقدر عليها العاديون من الناس,إلا الذين آمنوا بهذا النوع من الحياة والذين اشتاقوا أن يصلوا إلي هذا المستوي العالي من الحياة الروحية.أما الناس الذين ينجذبون إلي الأرض,فهؤلاء يرجعون إلي الوراء ولايتقدمون إلي الأمام,هؤلاء ينزلون بطبيعتهم الروحانية لأن الروح التي فيهم هي من الله وهي من طبيعة سمائية لكنهم بانسياقهم وراء الشهوات ,ووراء الرغبات المادية الذاتية,ينزلون بأرواحهم إلي مستوي الأرضيات ,وهنا ينزل الإنسان عن مستواه الذي خلقه الله عليه إلي مستوي منخفض وإلي مستوي وضيع.وعلي العكس من ذلك حياتنا دائما في الفضيلة هي حياة كفاح مستمر ونضال وثبات في هذا النضال علي أن يسلك الإنسان دائما ضد شهواته وضد رغباته وضد ميوله الدنيا محاولا أن يرفع مستواه بالتأمل الدائم,والسيرة المقدسة,وبالصلوات ,وبأن يسبح في عالم الروح بتأملات دائمة مستمرة.في هذا الطريق يحتاج الإنسان إلي وسائط مناسبة.
وسائط الخلاص:
هذه الوسائط هي التي نسميها بوسائط الخلاص وهي ممارسة الأسرار والعبادات المرسومة في الكنيسة المقدسة .فالعبادة تقرب الإنسان إلي الله وتزيد مشابهة الإنسان بالله وترفع الإنسان ليكون دائما في المستوي اللائق به كمخلوق علي صورة الله.
ومن بين هذه الوسائط الصلاة التي بلا انقطاع.1تسالونيكي5:17لأنها من وسائط الغذاء الروحاني.لأن الروح بالتأمل وبالتفكير وبالتعبد تنصرف عن الأرض ,وتتطلع إلي العالم العالي,وتحلق في السماء ,وتتأمل في الله.بها يرتفع العقل ويرتفع القلب,وترتفع الرغبات إلي ما هو فوق المستوي العادي.ولكن في بعض الأحيان يجد الإنسان نفسه غير قادر علي أن يصلي لأنه مثقل في هذا الجسد.نعم فللجسد ضغوطه علي النفس.وكثيرا ما يجد الإنسان نفسه مثقلا يريد أن يرتفع,فلا يجد نفسه قادرا علي أن يرتفع .ونحن لاننكر أننا بشر,ولسنا ملائكة ولا ننكر ما للجسد من أثر في حياتنا .هذا الأمر يشعر به التلميذ أحيانا عندما يذاكر دروسه فيكون محتاجا إلي صفاء الذهن,ولكن في بعض الأحيان يجد نفسه غير قادر علي الفهم والمتابعة لأنه يجد ذهنه مكدودا مثقلا,ولذلك يحزن وييأس وقد ينصرف عن العلم إلي أي إتجاه عملي.ولكن لو أن هذا التلميذ التقي بمدرس أو صديق أو بظروف جديدة,فربما بفضل هذا المعلم أو هذه الظروف يمكنه أن يحصل من العلم مالم يستطع أن يحصل عليه في فترات أخري وقد يكتشف أن السبب في عجزه عن الفهم والمتابعة هو حاجته إلي النوم المريح,وبعد أن يستريح يجد أن عقله وأعصابه قادرة علي أن تتقبل المعرفة والعلم .أو ربما كان هذا التلميذ مريضا ببعض الأمراض التي بسببها يصبح الذهن مكدودا فبعض أمراض الكبد أو بعض أمراض المرارة,وبعض أمراض المعدة أو الأمعاء,تحدث نوعا من الصداع,وهناك أيضا الصداع الناجم من إلتهابات الجيوب الأنفية وما إلي ذلك.هذه الأمراض والمتاعب الجسدية غالبا عوائق تمنع الذهن من الصفاء والتفكير السليم.
هكذا الحال بالنسبة للحياة الروحية .وما نختبره عمليا في حياة التلمذة ,أو في حياة العلم,وفي الحياة الذهنية والعقلية تجده أيضا علي نفس القياس في حياتنا التقوية,في حياتنا الدينية والروحية فنجد في بعض الأحيان القلب مثقلا,فلا يستطيع الإنسان أن يصلي أو يتعبد ,لا يستطيع أن يشعر بالنشاط الروحي فهناك جفاف وثقل,وتخمة مانعة للإنسان من أن يواصل عبادته بخصوبة روحية ,ومانعة للروح من أن تنطلق بسهولة لذلك كان الصوم من الوسائط النافعة المفيدة التي تكفل للإنسان الصفاء وتحقق له إمكانية الانطلاق بسهولة في حياة التعبد وهذا هو السر في ترتيب الصوم.وقد رأيت أن نتكلم عنه ونحن في بدء الصوم العظيم المعروف بالصوم الكبير,وهو الصوم الذي يهتم به الأقباط بل يهتم به العالم المسيحي عامة نظرا لأنه هو الصوم الذي صامه ربنا يسوع المسيح.
إننا داخلون في فترة من أقدس الفترات في أيام العام الكنسي,وهي فترة الصوم الكبير وحكمة الكنيسة في أن يكون هذا الصوم كبيرا لدرجة أنها أضافت عليه أسبوع الآلام فصار خمسة وخمسين يوما,مع أن أسبوع الآلام أسبوع مستقل,وبعيد تاريخيا عن صوم الأربعين المقدسة التي صامها مخلصنا,نقول إن حكمة الكنيسة في هذا الصوم الكبير,أنه كلما طال الصوم,أمكن للإنسان أن يحقق به السيطرة علي الجسد,ويتحقق به الصفاء النفسي ,ويتحقق الإمتداد الروحاني تماما كما يحصل في الناحية العلمية عندما يكون الإنسان منشغلا بكتابة بحث أو بقراءة موضوع مستغرق فيه,ثم يقطع حبل تفكيره قرعات شخص ما علي بابه فيتسبب عن ذلك تعطيل التفكير أو القراءة.
فإذا صام العابد مدة طويلة غير منقطعة,تتحقق له فوائد جزيلة جدا وتصير للإنسان إمكانيات الاستمرار والمتابعة المستمرة في الحياة التقوية.ولهذا جاءت الحكمة في جعل أسبوع الآلام ملتصقا بالصوم الأربعيني المقدس,لكي تكون هناك إمكانية أوفر للاتصال بالعالم الأعلي وللتعمق في الروحانيات ثم قالوا ليس حسنا أن ندخل في الأربعين المقدسة مباشرة .إن القطار عندما يبدأ في التحرك,يتحرك وئيدا ثم يسرع ولا يبدأ بالسرعة الكبيرة لذلك رأت الكنيسة أن لاندخل في الصوم الأربعيني المقدس وأسبوع الآلام الذي يتلوه دخولا مباشرا,بل رأت أن تضيف إليه مقدمة يبدأها الصائمون في تؤدة قبل أن يدخلوا في حياة النسك التي يجب أن يمارسوا بها أقدس الأصوام أهمية ومن هنا كان الأسبوع الأول من الصوم الكبير مقدمة للصوم الأربعيني المقدس,وتعويضا عن أيام السبت الخمسة التي تشتمل عليها الأربعون المقدسة,حيث إن قوانين الكنيسة تمنع أن يصام يوم السبت صوما انقطاعيافيما عدا السبت الكبير,سبت الفرحوذلك تقديسا لهذا اليوم واحتراما لشريعة الكتاب المقدس في الوصية الرابعة.
والآن فلنصم الصوم الكبير بروح التعبد والتقوي ومخافة الله,ولنضاعف من روح التضرعات والصلوات والتأملات والقراءات التقوية النافعة,وأعمال الرحمة والصدقات وليقبل الله صلواتنا وأصوامنا وصدقاتنا بخورا زكيا طاهرا ويتنسم رائحة الرضا,فيرضي علينا ويرحمنا,ويرفع غضبه عنا,ويهبنا السلام الذي يفوق كل عقل,ويبارك في شعبه,وكنيسته,ويبارك بلادنا,ويلهم قادة الفكر فينا إلي الحق والخير والواجب,له الإكرام والمجد إلي الأبد آمين.