الرؤية المسيحية للجسد
ا ـ من جهة خلق الإنسان فى البداية:
أ ـ خُلِقَ الإنسان على صورة الله ليس فى النفس فقط بل فى الإنسان كله، وصورة الله فى الإنسان ليست منحصرة فى عنصر معين من المركب الإنسانى بل هى تشمل طبيعة الإنسان كلها، فالجسد والنفس كلاهما خُلقا معًا على صورة الله. يقول القديس إيرينيوس: [الإنسان كله لا قسمًا منه خُلِق على صورة الله بيدى الله أى بالابن والروح القدس]
ويقول الشهيد يوستينوس مخاطبًا أحد الذين ينكرون قيمة الجسد: [من الواضح إذًا أن الإنسان المخلوق على صورة الله له جسد. لأن القول بأن لا قيمة للجسد المخلوق على صورة الله ولا شرف له، قول غير صحيح ومشين. فالإنسان ليس روحًا فقط ولا جسد فقط. الإنسان هو وحدة من النفس والجسد] (من بحث عن القيامة).
ونفس الكلام يقوله القديس غريغوريوس النيسّى بأن ليس النفس فقط بل “الجسم” أيضًا يشترك فى سمة الصورة وهو مخلوق على صورة الله.
ويصف القديس مقاريوس مضمون الصورة بأنها حالة الشركة مع الله التى كان الإنسان بموجبها قبل الخطيئة لابسًا الكلمة والروح القدس (انظر عظة6:12).
ب ـ فى لغة العهد القديم العبرية كلمة “جسد” هى “بشر” أى الإنسان كله روحًا وجسمًا كما جاء فى إشعياء النبى ” ويبصر كل جسد خلاص الله” (إش3:40، لو6:3)، وفى يوئيل النبى ” سأسكب من روحى على كل جسد” (يؤ28:2، أع47:2).
2 ـ من جهة التجسد الإلهى:
تجسد الكلمة باتحاد لاهوته بناسوته كشف لنا أن ابن الله اتخذ الجسم الإنسانى إلى الأبد. وحينما أتى الله ليخلّص الإنسان لم يأخذ نفسًا بشرية فقط بل أخذ جسدًا بشريًا أيضًا لأنه أراد أن يخلّص الإنسان كله روحه وجسده.
وقد رأى بعض الآباء أيضًا أن الإنسان ليس مخلوقًا على صورة الله فقط، بل إنه مخلوق على صورة ما سيكون عليه المسيح الكلمة المتجسد (غريغوريوس النيسّى مثلاً).
ونحن نعرف أن الطبيعة البشرية هى جزء لا يتجزأ عن شخص المسيح، فقد ” تأقنمت” فى أقنوم الكلمة، ولهذا يحتفظ ابن الله بالجسد بعد الصعود، وهو جالس عن يمين الآب بجسده المُمجد.
إذن فالرؤية المسيحية للجسد هى أن الجسد مجهز باتخاذ المسيح له أن يشترك فى المجد السمائى ويجلس فى النهاية مع المسيح فى مجده السمائى عند مجيئه الثانى بعد إقامته لأجساد الراقدين وتمجيدها.
وعلى هذا الأساس، فإن المسيحية ترفض كل فكرة تجعل من الجسد عنصرًا مؤقتًا من الوجود، أو سجنًا للنفس أو مبدأ شر يجب محاربته فى ذاته. فالشر ينتج عن الإرادة وليس عن الجسم ذاته، كما يقول القديس أثناسيوس فى الرسالة إلى آمون الراهب[1]، بأن الجسم هو صنعة يدى الله ولا يمكن أن الله يخلق شيئًا شريرًا. بل إن القديس أثناسيوس يعلّمنا أن تجسد الكلمة أثر على وضع الجسد الإنسانى فيقول: [إننا فى المسيح نُحيا جميعًا بولادتنا من فوق من الماء والروح، فلا يعود الجسد فيما بعد أرضيًا بل يصير إلهيًا كالكلمة، وذلك بسبب كلمة الله الذى صار جسدًا لأجلنا][2].
3 ـ الصراع بين الجسد والروح:
يلزم أن ننتبه إلى ان الصراع بين الجسد والروح الذى يتكلّم عنه القديس بولس فى رسالة غلاطية (17:5) ليس هو صراع بين جسد شرير وروح صالحة، فإن الإنسان كله نفسًا وجسدًا صار تحت سلطان الخطية نتيجة معصية آدم. فالمسيح علّمنا أن ” من القلب تخرج الأفكار الشريرة والقتل والزنى… إلخ”. ويقول يوحنا كاسيان عن الصراع بين الروح والجسد أنه ينبغى ألاّ نفهم بكلمة الجسد الإنسان نفسه أى جوهر الإنسان بل لأن هاتين الرغبتين المختلفتين هما فى شخص واحد، فنحن دائمًا فى حرب أهلية داخلية”. والقديس ديودوخوس يقول: “يوجد حس طبيعى واحد للنفس منقسم فيما بعد إلى نشاطين نتيجة معصية آدم”. وأيضًا “إذا كان غُسل القداسة (المعمودية) ينتزع منا رجاسة الخطية، لكنه لا يغير الآن ثنائية إرادتنا”.
إذًا فليس الجسم هو الشر كما تعلّم الغنوسية والمانوية. أما المسيحية فترفض كل عقيدة تقلل من قيمة الجسد أو تحتقره أو تعادله بقوة شريرة.
وعلى هذا الموقف يقوم أساس النُسك الجسدى فى المسيحية. فهو لا يهدف إلى إفناء الجسم بل إلى إخضاع الجسد للروح. وهذا يحتاج من الإنسان أحيانًا أن يكون صارمًا مع جسده، ورغم أنه حدثت تطرفات فى هذا المجال فى الواقع، ولكن الأمر المُسلّم به فى المسيحية هو رفض المغالاة فى النُسك والتقشف، رفض النُسك كهدف لذاته.
يقول الرسول بولس: ” لا يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويربيه” (أف29:5). ونفس هذا المنهج يعبر عنه الأنبا بيمن أب البرية بقوله: “نحن لم نتعلم قتل الجسد بل قتل الأهواء”.
4 ـ الجسد والتجلى:
عندما تجلى المسيح على الجبل ظهر مجده الإلهى فى جسده. وعن طريق هذا الجسد رأى التلاميذ بأعينهم الجسدية أن ” ملء اللاهوت حل فيه جسديًا” (كو9:2). كما أن مجد المسيح لم يكن مجدًا داخليًا خفيًا فقط بل ماديًا وجسديًا منظورًا. وهذا التجلى الذى حدث لجسد المسيح حدث مثله مع قديسين عديدين طوال التاريخ خاصة بين الآباء النُسّاك. فيخبرنا كتاب “أقوال الآباء الشيوخ” عن الأنبا صيصوى عند موته فيقول: [عندما كان تلاميذه يحيطون به، وهو على فراش الموت، كان وجهه يشع كالشمس وكان الضياء يزداد تألقًا ويغمر جسده حتى فارق الحياة، وعند ذاك صار النور برقًا خاطفًا وامتلأ البيت من رائحة الطيب]. كما يذكر نفس الكتاب: [أن الأنبا بامو قد تمجد بمجد جعل الذين كانوا يحيطون به يرتعدوا خوفًا ولا يجسرون أن يتفرسوا فيه. وكما أخذ موسى صورة آدم بمجده عندما لمع وجهه كذلك فقد شع أنبا بامو بأشعة براقة وصار كأنه ملك على عرشه].
وأحيانًا يتكلم كتاب “أقوال الشيوخ” عن النار بدلاً من أن يتكلم عن النور. كما ذكر عن الأنبا أرسانيوس أن أحد تلاميذه اقترب منه بصورة عفوية فوجده قائمًا يصلى وقد ظهر له الشيخ كأنه وسط نار. وكذلك عن الأنبا يوسف فى باقغو قال: [ووقف الشيخ ورفع يده إلى السماء فصارت أصابعه العشر كمشاعل فقال له: إذا أردت تصير كلك كالنار] وفى الحالتين سواء النور أو النار فإن الطاقات الإلهية غير المخلوقة تظهر بشكل نار كما فى ألسنة النار يوم الخمسين، أو شكل نور كما حصل لجسد المسيح على جبل التجلى أو لبولس فى طريق دمشق سواء نار أو نور فالحقيقة هى هى لا تتغير، وهذا التمجيد الجسدى ظهر بشكل قوى مع الراهب سيرافيم الروحى (المتوفى1833) “كنور يخطف الأبصار” حسب تعبير موتوفيلوف الذى شاهد تجلى سيرافيم وهذا يذكرنا بقول الإنجيل عن تجلى الرب: ” تجلى أمامهم فأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور” (مت21:17).
ويذكر بستان الرهبان عن مكسيموس ودوماديوس أن نارًا كانت تخرج من فمهما أثناء الصلاة ليلاً. وهكذا يخبرنا كتاب سيرة الأنبا ابرآم أسقف الفيوم[3] الذى كان يُرى ليلاً فى قلايته بالمطرانية قائمًا يصلى ليلاً وكله نور والقلاية مملوءة بالنور. وهكذا أيضًا وُجدت بعض حالات التجلى فى الكنيسة الغربية.
وراء كل هذه الحالات من التجلى الجسدى هناك نقطتان:
أولاً: التجلى فى حالة الرب وكذلك فى حالة تجلى قديسيه يؤكد أهمية الجسد الإنسانى فى اللاهوت المسيحى. وهذا التجلى يؤكد أن تقديس الإنسان لا يستهدف الروح فقط بل هو أمر يشمل أيضًا “فالجسد هو محور الخلاص” على حد تعبير العلامة ترتليانوس.
يقول الأسقف وستكوت: [ تجلي المسيح وتجلي قديسيه يبرهن لنا عن مقياس إمكانيات الإنسان ويُظهر لنا الجسد الإنساني كما خلقه الله في البدء، وما هو (أى الجسد) مؤهل أن يصير إليه بنعمته وبإرادتنا. التجلي يكشف روحانية طبيعتنا المادية الخاطئة، يكشف لنا رؤية الجسد الإنساني في حالته النهائية عندما يصبح روحيًا. التجلي يكشف بصورة حيّة تمامًا أن الروحي لا يساوي “الغير مادي”. ليست النفس فقط بل الجسد أيضًا مؤهل أن يتشح بوشاح الروح القدس].
إن تجلي جسد المسيح على الجبل يكشف جمال “الصورة الإلهية” ويظهر لنا ما هى الحالة التي كانت طبيعتنا الإنسانية عليها قبل أن تتلوث بخطيئة آدم، ويوضح لنا ما تستطيعه طبيعتنا البشرية وما يجب أن تصيره.
ثانيًا: التجلي في الحالتين، في تجلي المسيح وتجلي قديسيه هو حدث أخروى، أنه تذوق مسبّق للظهور الثاني وعربون له. وتمجيد أجساد القديسين يرمز بطريقة حية إلى منزلة المسيحي، ويشير كيف أن المسيحي في “العالم” ولكنه “ليس من العالم”، وأنه قائم في الحدود الفاصلة بين الدهر الحاضر والدهر الآتي ويعيش في الدهرين معًا. الأزمنة الأخيرة ليست حدثًا مستقبلاً فقط، إنها قد ابتدأت فعلاً.
تجلي جسد المسيح بالنور الإلهي أمام عيون تلاميذه لفترة قصيرة لا يعني أن طبيعته البشرية نالت شيئًا لم يكن فيها قبل التجلي، بل بالعكس فإن المجد الذي أضاء وجه يسوع على الجبل كان موجودًا داخله قبل أن يظهر على وجهه. فهذا هو مجد لاهوته المتحد بالجسد، ولكنه بإخلاء ذات إرادي أخفى هذا المجد، وهو المجد الذي سيظهر به بعد قيامته من الأموات ويستمر هذا المجد دائمًا في الجسد، وعند ظهوره الثاني من السماء سيأتي بقوة ومجد عظيم، وسينظر البشر جسده كما هو بكل جماله وعظمته دون إخفاء شئ من هذا المجد الإلهي العظيم، ونفس الشئ سيحدث لقديسيه. فمادام القديسون على الأرض فإن المجد الحقيقي داخلهم يبقى خفيًا وسريًا ولا يظهر خارجيًا على الجسد إلاّ في حالات نادرة. ولكن في القيامة في اليوم الأخير سيظهر القديسون كما هو في الحقيقة ممجدين ومنظورين خارجيًا إضافة إلى مجدهم الروحي الباطني الذي هو موجود منذ بداية عمل الروح القدس فيهم وهم على الأرض. فعندما يظهر المسيح بمجده في مجيئه الثاني، فإن نوره الإلهي الذي أضاء وجهه وجسده في التجلي وهو على الأرض على الجبل، هذا النور ذاته سيخترق أجساد القديسين المقامة في اليوم الأخير ويجعلها ممجدة كجسد المسيح الممجد بالقيامة والصعود في المجد السماوى.
وهذا ما يقوله القديس يوحنا البشير في رسالته “.. نعلم أنه إذا أظهر ذاك (أى المسيح) نكون مثله، لأننا سنراه كما هو..” (1يو2:3).
وتتحدث عظات القديس مقاريوس الكبير بصورة مفصلة عن تجلي الإنسان الذي سيحدث بعد قيامة الجسد: [ بقدر ما يحسب الإنسان أهلاً أن يصير شريكًا للروح القدس بقدر ذلك يتمجد جسده في ذلك اليوم. فكل ما خزنته النفس في داخلها في هذه الحياة الحاضرة، سوف يعلن حينئذٍ ويتكشف من الخارج ظاهرًا في الجسد… وعندما يأتي يوم القيامة، وبقوة شمس البر يخرج مجد الروح القدس من الداخل فيكسى ويغطى أجساد القديسين ـ ذلك المجد الذي كان لهم سابقًا ولكنه كان مخفيًا في داخل نفوسهم. فإن ما يكون للإنسان الآن، سوف يظهر بعينه خارجًا من الداخل وينكشف في جسده… هذا هو موسم القيامة الذي فيه ستتمجد أجسادهم بواسطة النور الفائق الوصف الذي هو فيهم منذ الآن ـ وأعني به قوة الروح القدس][4].
5 ـ الجسد هيكل للروح القدس:
تُظهر الدراسات النفسية الحديثة التداخل العميق بين الجسد والنفس، واكتشفت تأثيرات عميقة بين النفس والجسد. فحالة النفس تؤثر في صحة الجسد، وحالة الجسد تؤثر في صحة النفس إلى حد كبير. وهذه الأبحاث أدت إلى ظهور ما يُعرف الآن بالطب النفسي الجسدي Psychosomatic Medicine، وهذا الفرع الجديد من العلم تقوم أمثلة دافعة على هذا التأثير والتأثر المتبادل بين النفس والجسد. وقد توصل العالم كلاكيس (Klages) إلى القول بأن الجسم هو “تعبير” النفس، والنفس هى “معنى” الجسم، وأن العلاقة بين الاثنين تشبه علاقة الفكر بالكلام، فالكلام يُعبّر عن الفكر والفكر لا يمكن الإمساك به بدون الكلام، ولكن الفكر يتجاوز الكلام ويفيض عليه من كل ناحية.
هذه العلاقة العميقة جدًا بين الجسد والكيان الشخصي للإنسان ظاهرة أيضًا في المجال الجنسي، وكما يقول القديس أغسطينوس وهو يتحدث عن الشهوة الجسدية والجهاد ضدها: [ مَن ليس روحانيًا حتى في جسده، يصير جسدانيًا حتى في روحه ].
ولنلاحظ أن الجسد له قيمة وكرامة عالية وهى أن يسمح للأشخاص بأن يتحدوا ويشتركوا معًا، فالجسد هو الواسطة التي يتحقق بها حضور نفس لنفس أخرى. وهكذا فإن الشركة بين أشخاص البشر هى عميقة جدًا وسرية جدًا.
ويبيّن أدلر العالِم النفساني الشهير في القرن العشرين، أنه بحسب توجيهنا لجنسيتنا يمكن أن تنحرف مثلاً نحو إرادة السيطرة على الآخر. ومن ناحية فبواسطة هذه الطاقة الجنسية نستطيع إذا أردنا أن نصل إلى الروح في الجسد، وإلى الأبد في الزمان. طبعًا إن الجانب التناسلي في الغريزة الجنسية غير قابل لأن ترتفع قيمته ” فالمولود من الجسد جسد هو” (يو6:3). طبعًا الحياة الجنسية تتضمن جانبًا حيوانيًا غير قابل للتغيير، ولكن ما هو ليس بيولوجيًا تمامًا في الجنسية بل هو سيكولوجي أى نفسي نوعًا، فهذا يمكن أن يتحول ويتسامى وينتقل إلى خدمة الروح. فالغريزة في الجنس البشري مشحونة بالعواطف ومنعمة بالروحانية حتى أنها تستطيع في بعض الأشخاص أن تُمحى أمام متطلبات ارتقاء النفس، وذلك بدون أن تؤدى السيطرة ـ التي يمارسها الناسك أو الناسكة، على الجسد حينما يكون الأمر عفة وليس كبتًا ـ إلى أى نقص في قيمتهما الكاملة، سواء من الناحية الجسدية أو النفسية أو الأخلاقية الروحية. بسبب هذا اتفق اللاهوتيون على القول بأن حالة البتولية هى أسمى ـ في ذاتها ـ من غيرها. ولكن هذا السمو هو بفعل الروح القدس العامل في الناسك. يوجد في الإنسان قياس داخلي، أعلى من الجسم، وأعلى من الزمان والمكان، هذا القياس الداخلي يعطي للظهورات الزمنية والمكانية معناها.
إذًا فالإنسان هو نفسيًا ظهور الروح، فسيولوجيًا ونفسيًا معًا فإن الشخص البشري مؤلف ومكون لأجل حياة الروح وموجه إليها.
وهكذا فإن الجسم هو ـ بطريقة ما ـ علاقة الشخص وظهوره. ومبدأ الجسم الداخلي هو مبدأ روحي، وحضور الروح القدس فيه يظهر في كيف أن الشخص يتجاوز نفسه ـ بصورة دائمة ـ إلى أعلى من نفسه.
لذلك يلزمنا أن نقول بحق أن هدفنا النهائي هو التقديس الكامل والشركة في الطبيعة الإلهية بواسطة الروح القدس الذي ينتهي بنا إلى ملكوت الله. ونحن منذ الآن ـ ونحن في الجسد نستطيع أن نحصل على تذوق سابق لملكوت الله ـ الملكوت الذي يصير داخلنا من الروح القدس.
وهكذا فإن الجسم مخلوق في نفخة الروح لكي يصير هيكلاً للروح القدس. وكل حياة الجسم تقوم في أن يتابع بلا انقطاع هذا الهدف ـ هدف أن يكون هيكل الروح فعلاً وشخصيًا بكل ملء حضور الروح الحقيقي الذي يعني في النهاية حضور الثالوث القدوس.
ولكي يتحقق هذا الهدف، ولكي يتم تقديس الجسد حقيقةً بواسطة الروح القدس، سواء من الناحية الجنسية أو غير الجنسية، يحتاج الأمر جهادًا روحيًا مستمرًا، ويحتاج إلى تيقظ روحي، وإلى نسك روحي الذي أشرنا إليهم سابقًا. يقول القديس باسيليوس: [ الروح القدس حاضرًا عند الجميع ولكنه لا يظهر قوته إلاّ في الذين تطهروا من الأهواء].
وفي هذا الجهاد الذي لا نخوضه وحدنا بل المسيح يجاهد معنا، فقد أعطانا المسيح وسيلة التقديس العظمى وهى الافخارستيا، لكي نصير بها فعلاً “هيكل الروح القدس”.
وإذا كنا حريصين على عدم إطفاء الروح القدس فينا بصفة مستمرة، حينئذٍ يصير جسمنا هو هيكله المقدس على الدوام. وبديهي أن سكن الروح فينا يصنع من كياننا “مسكن الثالوث القدوس”، ويختمنا الروح بختم علاقة شخصية وفريدة مع الثالوث. وهنا نجد سر الاخلاء الذاتي، أى سر تنازل الروح القدس الآتي إلى العالم. والذين يحيون في المسيح يشعرون أنهم موضوعون بواسطة الروح القدس في اتصال مباشر مع الله، هو اتصال كل لحظة، فهم يعيشون في الروح مغمورون بالروح، ويحسبون أن الروح يحيي كيانهم باستمرار من ينبوعه الذي لا ينضب.
6 ـ حديث القديس أنطونيوس عن تطهير الجسد بالروح القدس[5]:
الروح القدس هو الذي يوجه الدعوة أولاً للمجاهدين … ويجعل أعمال التوبة حلوة… ويعطيهم أعمالاً يمكنهم بواسطتها أن يجمعوا والجسد حتى يتطهرا ويدخلا معًا إلى ميراثهما أى الحياة الأبدية.
1 ـ أولاً: الجسد يتطهر بالصوم والسهر والصلوات وبالخدمة التي تجعل الإنسان ينضبط في جسده ويقطع من نفسه كل شهوات الجسد. فيبدأ الروح الذي يرشده، أن يفتح عيني نفسه لكي تتوب، أى لكي يتطهر، وذلك عندما يبدأ العقل أن يتعلّم من الروح فإنه يصبح مرشدًا لكل أعمال الجسد والنفس لكي يعلّمنا كيف نطهرهما. ويعيد كل عضو في الجسد إلى حالته الأصلية… ويصبح الجسد تحت سلطان العقل المتعلّم من الروح، كما يقول الرسول ” أقمع جسدي واستعبده” (1كو27:9). لأن العقل يطهره في أكله وشربه وفي نومه… أى يطهره في كل حركاته، حتى أنه من خلال طهارة (العقل) يتحرر الجسد حتى من الحركات الطبيعية التي فيه.
2ـ ويذكر القديس أنطونيوس 3 حركات للجسد ويقصد بها حركات الشهوة الجسدية:
أ ـ حركة من الطبيعة منذ خلقتها الأولى فقط تنبهنا أنها حاضرة وموجودة.
ب ـ حركة ثانية تحدث من امتلاء الجسد بالطعام والشراب فتتسبب كثرة الأطعمة في إثارة حرب في الجسد.
ج ـ حركة ثالثة من الأرواح الشريرة لأنها تسعى أن تدنس الذين بدأوا يسيرون في طريق النقاوة.
فإذا ثبتت النفس في الشهادة التي يشهد بها الروح داخل القلب، وتسلحت بالصبر في هذه الحركات، فإن النفس والجسد كليهما يتطهران من هذا النوع من المرض.
3 ـ كيف يطهر الروح الأعضاء والحواس:
+ العينان: يضع الروح قانون للعينين لكي تنظرا باستقامة ونقاوة.
+ الأذنان: ثم يضع قاعدة للأذنين كيف تسمعا بسلام ولا تشتهيا سماع الكلام الردئ، ولا أن تسمع عن فضائح الناس، بل يعلمهما كيف تبتهجان بالسمع عن الأشياء الصالحة وعن الطريقة التي يثبت بها كل إنسان، وعن الرحمة المعطاة لكل الخليقة التي كانت مريضة فيما سبق.
+ اللسان: الروح يعلم اللسان النقاوة، لأن المرض الذي أصاب النفس كان يُعبّر عنه بواسطة اللسان الذي تستخدمه النفس كأداة، وبهذه الطريقة أُصيب اللسان بمرض خطير… وأيضًا بواسطة هذا العضو ـ اللسان ـ قد مرضت النفس. كما يقول القديس يعقوب ” إن ظن أحد أنه دين وهو لا يلجم لسانه بل يخدع قلبه فديانة هذا الإنسان باطلة” (يع56:1) وأيضًا ” اللسان يدنس الجسد كله” (يع5:3ـ6).
ولكن إذا تقوى العقل بقوة الروح، فإنه أولاً يتطهر ويتقدس، ويتعلم التمييز والإفراز في الكلمات التي يسلمها إلى اللسان (لكي ينطقها)، لكي تكون هذه الكلمات بدون تحزب وبدون إرادة ذاتية أنانية.
+ حركات اليدين: ثم يشفى الروح اليدين اللتان كانتا تتحركان بطريقة مضطربة ـ متبعة إرادة العقل. أما الآن، فإن الروح يُعلّم العقل كيف يطهر اليدين لكي يعمل بهما ويشتغل بهما في عمل الرحمة وفي الصلاة ” ليكن رفع يدي ذبيحة مسائية” (مز12:141).
+ البطن: (الأكل والشرب): ثم يطهر الروح البطن في أكلها وشربها… وكل الذين يطلبون الطهارة في هذا الأمر، فإن الروح القدس يضع لهم قواعد للتطهر: وهى الأكل باعتدال بما يكفي لأجل قوة الجسد، وبدون تلذذ شهواني، وبهذا يتم قول بولس ” فإن كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا فافعلوا كل شئ لمجد الله” (1كو31:10).
+ الأفكار الجنسية: وأما عن الأفكار الجنسية التي تتحرك من الجزء أسفل البطن، فإن العقل يتعلم بالروح كيف يميز بين الحركات الثلاثة التي تكلمنا عنها سابقًا ويثابر في تطهير هذه الأعضاء حسب ما يعينه الروح ويقويه، حتى أن حركات الجسد تنطفئ بقوة الروح الذي يصنع سلامًا في كل الجسد ويقطع منه كل الشهوات حسب قول الرسول ” فأميتوا أعضاؤكم التي على الأرض الزنا النجاسة الهوى الشهوة الرديئة.. الخ” (كو5:3).
+ خطوات القدمين: وأيضًا يغطي القدمين طهارتهما، لأنهما بعد أن كانت حركاتهما غير مستقيمة، فإنها الآن فإذ قد صار العقل موحدًا تحت سلطان الروح، فإن العقل يطهر القدمين لكي تسيرا بحسب إرادة الله لتذهبا وتخدما في الأعمال الصالحة.
والنتيجة: تغيير وتجلي الجسد:
وهكذا يتغير الجسد كله ويتجدد ويصبح تحت سلطان الروح. وعندما يتطهر كل الجسد ويأخذ ملء الروح، فإنه بذلك يكون قد نال بعض النصيب من ذلك الجسد الروحاني العتيد أن يكون في قيامة الأبرار.