اول ثمار الروح القدس
“وأما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف” (غل 5: 22
الروح القدس أيها الحبيب هو روح الله الساكن في الإنسان. وهذه هي عطيّة العهد الجديد إذ قد صرنا “هياكل الله وروح الله ساكن فينا” (1 كو 6: 19). وبهذا انتزع منا روح الظلمة الذي يعمل في أبناء المعصية… وقد كانت البشريّة قديمًا تئن تحت نير الإنسان العتيق ولهذا يصرخ داود المرنم قائلاً: ” قلبًا نقيًا اخلق فيَّ يا الله وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي” (مز 50: 10). وهذا في الواقع إحساس بالاحتياج إلي التجديد بحلول الله في الإنسان لكي يُغيِّر الطبيعة المائتة ويخلق فيها حياة أبديّة…
وبسكنى روح الله في الإنسان أعطانا أن نكون شركاء الطبيعة الإلهيّة هاربين من الفساد الذي في العالم (2 بط 4) وأصبح لنا أمور مُذخَّرة وعطايا لا ينطق بها من محبة الله وفرح بالله وسلام داخلي عميق نتيجة للشركة معه.
-
وهذه الأمور ليست منا “لأنه ليس فيّ أي في جسدي شيء صالح” (رو 7: 8). إنما هي صفات الله التي اتحدت بطبيعتنا كنتيجة لاتحادنا بالله وسكنى روحه فينا… يا لمحبتك يا إلهي!!
يا ربى يسوع أعطنا أن نكتشف هذه الأمور حتى تثمر فينا ويكون عملك ظاهرًا في حياتنا آمين.
2. ما هي المحبة؟
” لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا ” (رو 5: 5(
الحقيقة أيها العزيز إن المحبة هي عمل الله فينا، إذ بصليب ربنا يسوع المسيح قتل العداوة وأعلن المحبة… بل وسكبها علي العالم المشحون بالكراهية نتيجة برودة المحبة، فأشعل في قلبي وقلبك نور المحبة الذي يلهب القلب فيتعطش لحب الله أولاً ثم في خلال محبته لله يحب الجميع، وبقدر ما يتسع القلب بالحب ويتعب من أجله، بقدر ما يشعر أنه لا يستطيع أن يحيا بغير المحبة، إذ يفقد طعم الحياة ويضطرب سلامه الداخلي ويخسر رجاءه ويصير تائهًا لا يعرف شبعًا أو ارتواء.
والمحبة ليست فكرًا ولا أمنية وإن كانت تحتوى هذا وتلك وإنما المحبة هي عمل يستطيع كل عضو في الإنسان أن يُعبِّر عنه بطريقته الخاصة وحسب إلحاحات الظروف، وبقدر ما نقدم أعضاءنا آلات برّ لله، بقدر ما نُعبِّر عن محبتنا له… فهل عندك يا أخي عدد لا بأس به من أعضائك أخذ مكانه في التعبير عن محبتك لإلهك؟!…
3. طبيعة المحبة
طبيعة المحبة كما أوضحها القدِّيس بولس الرسول في الرسالة الأولي لأهل كورنثوس أن لها وجهان أحدهما يهدم كل ركن من أركان الإثم والخطية وهو ما يُعرَف بالوجه السلبي، والآخر يبني كل فضيلة في الإنسان المسيحي، لأن كل فضيلة الأصل فيها هو المحبة، وهو يُعرَف بالوجه الإيجابي… وهذان الوجهان هما:
أ. الوجه السلبي:
وهو أثر المحبة في ملاشاة واختفاء كل ملامح الخطيّة في حياتي لأن:
+ المحبة لا تحسد
لأن الحسد إحساس بالنقص والطموح معًا… والمحبة إحساس بالملء والفيض، وكذلك الحسد عين ناظرة إلي الأرض… وأما المحبة فهي عين ناظرة إلي السموات، وهذا سرّ فيضها وشبعها.
+ المحبة لا تتفاخر
فالمفتخر بنفسه ومقدرته هو إنسان فاته أن الله هو مصدر خيره ووجوده… أما المحبة فلا تفتخر لأنها مشغولة بردّ الجميل لله واقتسام الخير مع الجميع.
+ المحبة لا تنتفخ
لأن المنتفخ إنسان احتجز المجد لنفسه فأحس أنه أفضل من غيره… أما المحبة فتتخلص مما يزيد عن حاجتها وتعطي من أعوازها.
+ المحبة لا تقبح
القباحة أن يسلك الإنسان بعدم لياقة إرضاء لنزعاته الدنيويّة أو دفعًا عن حقوقه المسلوبة… أما المحبة فقد فطمت نفسها حتى من الأشياء المباحة.
+ المحبة لا تطلب ما لنفسها
مَنْ يطلب ما لنفسه فهو يعيش في دنيا لذاته… وأما المحبة لا تطلب ما لنفسها لأنها تعيش من أجل الآخرين في دنيا الله.
+ المحبة لا تحتد
لأن الذي يحتد يستسلم لضيق نفسه… وأما المحبة فهي تُسلِّم نفسها للموت من أجل نقص الآخرين.
+ المحبة لا تظن السوء
والذي يظن السوء، إما أن يكون بيّت علي العداوة والخصومة… أو يكون قد يكون سلَّم عقله للباطل… أوقد يكون قد انطبع فكره بِشرّ الناس… وأما المحبة فتقف من الحوادث والأمور موقف الله الذي يجعل الأمور كلها تعمل معًا للخير، كما أن المحبة لا تقبل إلاَّ أن تحيا في السلام.
+ المحبة لا تفرح بالإثم
لأن الذي يفرح بالإثم هو أثيم بمعنى أنه يشتهي أن يسقط كل الناس كما سقط هو، ويفرح بالشرور حينما تداهم الناس وبالأخص خصومه لأنه يطلب أن يتمجَّد بهوان الآخرين، ويُزكِّي نفسه بانكسار أعدائه. أما المحبة فتقيم الساقطين وتحلّ المربوطين. وتستر علي إثم الآثمين وتبكى علي انكسار الآخرين.
+ المحبة لا تسقط أبدًا
الإنسان يسقط حينما يكون وحده وليس هناك مَنْ يسنده سواء بسبب كبرياء قلبه أو صِغَر نفسه… أما المحبة فيسندها الله ذاته، لذا فهي لا تسقط أبدًا.
هذه أيها الحبيب الأمور التي تنتصر المحبة عليها وتسحقها وتظفر بها جميعًا، إذ مِنْ يقتني المحبة منه يختفي تمامًا.
ب. الوجه الإيجابي:
أي أن المحبة تُكسب الإنسان كثيرًا من المنافع. وأكثر من هذا أمور لازمة لتكميل الطريق بل لنصير مثله كما يقول يوحنا الحبيب وهي:
+ المحبة تتأنى
لا عجب أن يضع بولس الرسول هذه الصفة في أول قائمة صفات المحبة مشيرًا إلي جوهرها الإلهي: فالله طويل الأناة جدًا… وهكذا ينبغي أن يكون أولاده، والتأني هي الصفة المختصة بمعاملة الضعفاء والخطاة. وإذا حازها الإنسان كانت له أقوى عوامل النجاح في خدمته… ولهذا ما ألزمها لنا أيها الأخ الحبيب. إذ تجعلني أحمل قلب الله واحساساته تجاه البشريّة المسكينة.
+ المحبة تترفق
وهذه أيضًا صفة من صفات الله. وهي تعنى الترفق والرحمة بالخطاة والضعفاء والذي يتأنى بالضرورة يترفق… ومن هنا نرى تسلسلاً دقيقًا في صفات المحبة، إذ كلها ذات اتجاه بنَّاء لنفسيّة الإنسان الضعيف أو العاجز.
+ المحبة تفرح بالحق
وهنا ينكشف جوهر المحبة الذي تُبنى عليه والذي تنجذب إليه، فالمحبة منحدرة أصلاً من الله، لذلك لا تسعد ولا تفرح إلاَّ بما يوصِّلها إلي موطنها… فالإنسان المحب حينما يكون فرحه ومسرته بالحق، يكون هذا أعظم دليل علي أنه يسعى إلي موطنه السماوي مصدر الحق.
+ المحبة تحتمل كل شيء
هذه الصفة تؤمِّن للمحبة وصولها إلي الغاية. وهي تفيد الكفاءة في حمل الإساءة إلي أقصى حدودها وتجاوز الإثم وغض الطرف عن الخسارات والاعتداءات، كل ذلك بدون رد فعل لأن النفس تستمد قوتها وسلامها من الله مصدر القوة والسلام والذي لا يُحَد.
+ المحبة تصدق كل شيء
لأن المحبة واثقة من هدفها، فهي من جانب تقبل كل وضع. ولا شك أن إمكانياتها من جهة الاحتفاظ بقوتها في العبور فوق الفخاخ والصعوبات التي يبثها العدو في الطريق، وهي إن كانت تصدق كل شيء، إلاَّ أنها تكشف الكذب وتفضحه وتوقف عمله حينما تواجهه بإيجابيتها المتفائلة، وهي تُصدِّق كل شيء لأنها تستطيع أن تجعل المعوجات مستقيمة والعراقيب سهلة.
+ المحبة ترجو كل شيء
لأنها متفائلة دائمًا لا تفقد الأمل في الفتيلة المدخنة، ولا في القصبة المرضوضة، ولا في مريض الثمانية وثلاثين سنة، ولا في التي ربطها الشيطان 18 سنة… والمحبة متسلحة برجاء حي لا يستنفذه عدو الخير أبدًا في خبثه ومعاندته، ولا غباوة الإنسان ولا ضعف الجسد، فالمحبة ترجو طالما للرجاء باب مفتوح. فالمحبة والرجاء في مكان دائم.
+ المحبة تصبر علي شيء
المحبة طريقها في وسط العالم وعر ومليء بالمقاومات والاستهزاءات والخيانات والمناورات والخداع والاستغلال والمساومات، وهي لا تميل هنا أو هناك، بل في طريقها الصاعد صابرة علي كل شيء.
هذه أيها الأخ الحبيب الصفات التي تعطيها المحبة حتى يصير الإنسان بالحقيقة يعيش في السماء وهو علي الأرض حاملاً في جسده سمات الرب يسوع.
4. الصليب هو الطريق العملي للمحبة
أ. المحبة الإلهيّة لنا في الصليب:
إن المحبة الأبديّة التي أحبنا بها الآب هي بعينها التي كانت قائمة بين الآب والابن أولاً ثم حلَّت فينا بتجسد الكلمة المُحمَّل بمحبة الآب… ثم صارت لنا حينما ارتضى الآب أن يسفك دم ابنه ويعطيه لنا، فنحن نشرب الآن محبة الآب للابن ومحبة الابن للآب في سر الدم الإلهي “لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي… الآب يحبكم لأنكم أحببتموني” (يو 16: 27)
ولذلك صار الصليب الطريق الذي به تنسكب علينا محبة الله… ولكن الله لم يكتفِ بأن يجعل عنصر المحبة الإلهيّة مجرد صورة تنطبع في القلب، أو ثمرة جهاد لتأمل الصليب والمصلوب والدماء المنحدرة علي الأرض فقط، بل أضاف إلي ذلك بأن هيأ لنا من الدم المسفوك والجسد الممزق نصيبًا نأخذه بسرّ لا يُدرك فيستقر في أعماقنا لنتحد بتلك المحبة المصلوبة، وحينئذ نؤهل لقبول روح الحياة الذي هو روح المحبة، وبذلك صارت محبة الإنسان الضعيفة سبب طبيعته الجسديّة العاجزة ممكن (لو أنها قبلت المسيح المصلوب واستنشقت بالروح القدس) أن تنفك من هذا الضعف لتنطلق بقوة سريّة خارقة كالنار لا يقف أمامها أي عائق… وهكذا كان بالصليب تمتعًا بسرّ المحبة الإلهيّة العجيبة الذي يخلق فينا روح المحبة التي هي مذاق جديد بفعل الروح القدس.
ب. المحبة تدعو لنسيان الذات:
المحبة عندنا أيها العزيز نحن المسيحيّون تؤكد نسيان الذات والأنا، وأحيانًا يتخيل الإنسان المسيحي أن ظهوره سيكون لحظة أن يحب أكثر… بل وكثيرون يصاحب محبتهم شعورهم بكبرهم، بينما الحقيقة أن كِبَر النفس وظهورها متعارض مع أن نحب. بل وأكثر من هذا أن الحب يكشف عن نسيان الإنسان لنفسه.
إن الاقتراب من الرب يسرع غير المشوش بفعل وجود رغبات شخصيّة في النفس، إنما يدفع الإنسان دفعًا لحبه والتعلق به والإتيان بكل ما يطلبه من الإنسان برضى كامل وطاعة حب بلا تحفظ.
لا تقل كيف أحبه ما لم أقتنع… صدقني يا أخي الحبيب أنها أكذوبة تصنعها الظلمة التي تحيط بنا، ولكن يوم أن تصفو قلوبنا وتنتقي نجد أنفسنا في مواجهة مع قانون حتمي محبب للنفس وهو حتميّة صرف حياتنا في طاعة مطالب حب الله.
تحكي لنا الآية “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد…” حكاية حقيقيّة هامة جدًا ينبغي أن نعيها جيدًا، وهي أن الحب عندما يوجد لا توجد الذات. وإنما الحب علاقة مؤكدة للتضحية والذي يريد أن يحتفظ بذاته أو يريد أن يكون الحب هو المعبِّر عنها ووسيلة تأكيد وجودها إنما يصنع مضادة لا تخفي عن العين التي تحب الله أو التي تعيش في المحبة الحيّة لله بعمق.
يا أخي العزيز يهمني والرب شاهد أن تكون بلا هَمّ. وليس هناك هَمّ يتساوى مع هَمّ المعيشة بهذه المتناقضات… وهي وجود ذاتك وتمسكك بها مع رغبتك في حياة المحبة لله وللجميع. وهذا مستحيل… إنس ذاتك وتَذكَّر أن الله أحبك فيمتليء قلبك بالحب المتدفق وتسير في هذا الطريق إلي أن تدرك محبة الله اللانهائيّة لكل البشريّة.
قد تظن أيها الحبيب أن هذه الأمور نظريّة… لا!! لأن حياة رجال الله القديسين الذين تمتعوا بهذا الحب، أكدت هذه الحقائق المذكورة أمامك والتي أوردناها لتعيش وتعتني بها. وتصير لك كنزًا تصر علي اقتنائه وتحافظ عليه بدمك… وإليك هذه الأمثلة لتكون أمامك في الطريق:
+ ذهب اثنان من الآباء الرهبان يومًا إلي مدينة ليبيعا صنع أيديهما وافترق أحدهما ليشتري بعض الاحتياجات… بينما انتظره زميله في الفندق… وفي ساعة شرّ سقط هذا الأخ في الإثم ولما جاء أخوه إليه، قال له: [ها قد حصلنا علي كل ما نحتاجه فهيا بنا الآن لنعود إلي قلايتنا]… ولكن الذي فعل الخطيّة تنهد وقال: [لن أقدر علي العودة معك…!!] فتحيَّر الأخ وسأله عن السبب فاعترف قائلاً: [لأنه حين كنت وحدي هنا سقطت في الخطيّة والآن يستحيل عليَّ الرجوع معك]… وإذ كان قلب الراهب الذي يسمع اعتراف أخيه مملوءً بالحب ابتسم وقال: [وأنا أيضًا تعثرت في الطريق وسقطت نظيرك]. وأحيا في نفس أخيه روح الرجاء وقال له: [إننا نعرف إحساسات إلهنا أنه يتحنن علينا ويقبل توبتنا، لأنه لا يشاء موت الخاطيء]، فقاما وذهبا إلي أب اعترافهما وسقطا عند قدميه واعترفا بتوبة. فأمرهما الشيخ بتدريب روحي قاسي، ونَفَّذ الراهب الذي لم يسقط هذا التدريب من أجل محبته لأخيه، وتطلَّع الرب من السماء وغفر للساقط إذ رأي عمل المحبة وكشف هذا للآباء الشيوخ فمجَّدوا الله وخبرت قلوبهم بما تصنع المحبة.
وإليك هذه القصة الواقعيّة التي تفرح بها النفس المحبة:
وقَّع “أوليفر كرومويل” وثيقة إعدام أحد ضباطه لخيانته فجاءت زوجة الضابط وركعت أمامه قائلة: هل تعفو عن زوجي؟ فقال لها: زوجك خائن للوطن وغدًا عندما يدق ناقوس الكنيسة في السادسة صباحًا سيموت زوجك رميًا بالرصاص… وفي الصباح الباكر كان شبح الزوجة التعسة يسرع إلي الكنيسة، وأخذت تصعد إلي أعلي البرج حتى وصلت إلي الجرس الأكبر واختبأت هناك، وفي والوقت المُعيَّن جاء الخادم العجوز، وكان قد فقد السمع والبصر ولما أمسك بحبل الجرس وضعت الزوجة المحبة يديها بين لسان الجرس وجانبيه عوضًا عن أن يدق اللسان جانبي الجرس دق وسحق اليدين الرقيقتين لهذه الزوجة الغنية في محبتها، ولم يسمع صوت الجرس واستمر الجرس يدق ويسحق يديها لمدة خمس دقائق ولم يترك منها إلاَّ شرائح اللحم والدم، وفاضت دموعها علي خديها من شدة الألم. ولكنها تحمَّلت الآلام من أجل مَنْ تحب، وعندما انتهي الخادم من دق الجرس أسرعت وذهبت إلي كرومويل الذي ختم بالأمس أن يموت زوجها وقالت ألا تسامح زوجي لأجل هاتين اليدين؟… فبكى كرومويل وأجابها: أيتها المرأة عظيمة هي محبتك… اذهبي وزوجك بسلام.
هكذا يا أخي الحبيب أليس أنا وأنت خائنين في نظر الله ونستحق الحكم والموت لأننا كسرنا وصاياه… لكن ربنا المبارك سمرت يداه ورجلاه علي الصليب ليفتدينا وهو “مجروح لأجل معاصينا ومسحوق لأجل آثامنا” (إش 53: 5(أحبنا… بذل نفسه… لأجلنا
5. العالم يخدم بالمحبة
لقد رسم لنا الرب يسوع أيها الحبيب الطريق. إذ بمحبته للعالم بذل نفسه علي عود الصليب، وكثيرًا ما قال رب المجد للتلاميذ: ليس هناك حب أعظم من هذا أن يضع الإنسان نفسه من أجل أحبائه، وأيضًا يقول القديس يوحنا الحبيب “بهذا عرفنا المحبة أن ذاك وضع نفسه لأجلنا فنحن علمنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة” (1 يو 3: 16)
وهكذا أيها العزيز رسم لنا الطريق للخدمة بالمحبة وكم من أناس لم تُخلِّصهم الكلمات ولكن بأعمال المحبة أدركوا الإيمان سريعًا، وإليك هذا المثال الحيّ:
كانت سيدة صينية فقيرة تعاني آلام من قرحة خبيثة في ذراعها وكانت ترفض قبول المسيح الذي بشرتها به ممرضتها المسيحيّة. وقد قرر الطبيب أنه إذا أعطى أحد هذه المريضة رقعة من جسده وبعض دمه لتحقن به، فهناك رجاء في شفائها، فاستدعت المريضة ابنها وطلبت إليه أن يعطيها قطعة صغيرة من جسده وبعض دمه فأبى تلبية طلبها مما أحزن قلبها جدًا، فصارت تبكي بمرارة وتذرف الدموع يومًا بعد يوم… وبعد أيام شاهدتها الممرضة تبكي فعرضت عليها أن تقبل قطعة من جسدها وبعض دمها لكي تشفي من دائها. فتأثَّرت المريضة جدًا…!!! وفعلاً نفَّذ الطبيب هذا الاقتراح وأجرى العمليّة… وبدأت تباشير النجاح تزداد يومًا بعد يوم إلي أن بدت عليها رقعة بيضاء مكان القرحة، وفي ذات يوم… كانت تبكي بشدة وهي تنظر إلي ذراعها الذي برء نظرة غريبة فشاهدتها وسألتها عن سبب بكائها فأجابت: إني أنظر إلي هذه الرقعة البيضاء علي ذراعي مفكِّرة في إعطائك لي جسدك ودمك لكي يتبرأ جسدي الحقير المُصاب بالقرحة فما هو الدافع لكِ علي عملك هذا؟؟!… فأجابتها الممرضة قائلة: “إني قمت بذلك في سبيل محبة يسوع لأنه بذل حياته عني، وهو يعطيني جسده ودمه علي المذبح لكي ما تبرأ نفسي المريضة بالخطيّة والإثم” فعادت المرأة تبكي من جديد بكاءً شديدًا شاخصة إلي الممرضة وهي تقول: “أيتها الممرضة أني أريد يسوعك لي أنا أيضًا مادام هذا الذي حملك علي محبتك لي بهذه الكيفيّة مع أن ابني أبى إنقاذ حياتي”… ومن هذه اللحظات اعتنقت المسيحيّة وصارت انسانة حارة في عبادتها لله… وهكذا فهذه الممرضة أخذت فكر المسيح في الخدمة وهو المحبة التي اجتذبت بها الكثيرين للمسيح من أجل اتساع قلبها وحبها المتدفق.
+ وهكذا يا مَنْ تحبون الله وتشتهون أن يكون حيًا في العالم عاملاً فيه اعلموا أن الله سيكون حيًا في قداسة أرواحكم وأجسادكم ولن ينفع العالم آمالكم ونياتكم بل قداسة حياتكم. إذ القديسون أنطونيوس وباخوميوس وأبو مقار وكل القديسين لم يمجدوا الله ويرفعوا اسمه أمام أبنائهم الروحيّين وأمام العالم إلاَّ بحياتهم المقدسة ومحبتهم القويّة لله وتعلق قلبهم بالله إلي الموت.
+ الدعوة لنا جميعًا لأن نصلب الجسد مع الأهواء والشهوات.
+ الدعوة لنا جميعًا لأن نصلب الإنسان العتيق مع أعمال الظلمة.
+ الدعوة لنا جميعًا لأن نميت أعضاءنا التي هي علي الأرض.
وهذا هو المنهج القانوني والطريق الحي لنلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب صورة خالقه في البرّ وقداسة الحق والمحبة القويّة التي هي كالموت.
ولا تنسى أيها الحبيب أن هذه المواجهة لتيار الشرّ والظلم والخطيّة إنما هو نفسه محبتنا لله وأن إصرارنا علي الحياة في قداسة الروح والجسد هو نفسه محبتنا لله.
علينا أن ندخل في حياتنا الجديدة مسلَّحين بالمحبة التي تعطي معنى لكل أعمالنا وأتعابنا وجهادنا، ومحبة مثل هذه هي التي يُطلق عليها ثمر الروح.
إنها دعوة لنا جميعًا يا عزيزي لأن نفسح المجال لحياتنا لروح الله حتى يثمر فينا حبًا وحتى يؤمننا الروح من الفشل. لأنه يعطي بطبيعته القوة والنصح “لأن الله لم يعطِنا روح الفشل بل روح القوة والمحبة والنصح”.
6. كيف أقتني المحبة؟؟!…
عزيزي… لا شك أن نفسك اشتهت حياة المحبة الحقيقيّة التي اقتناها القديسون… فعاشوا غرباء تائهين في البراري وشقوق الأرض، والتي عاشها الشهداء إذ قدَّموا أعضاءهم للتقطيع وأجسادهم للتعذيب غير مبالين بالآلام لأن عقولهم كانت مشغولة بالعريس السماوي الذي أحبهم ومات لأجلهم وخطبهم لنفسه عذراء عفيفة… والتي يحياها كثيرون من خدام الله الأمناء الذين حملوا شعلة الإيمان لكل العالم علي مرّ العصور، إذ كانت كلماتهم المملوءة بالحب تجذب الكثيرين من الفجار والزناة، المجرمين والقتلة إلي حضن يسوع الدافيء.
ولكي نقتني المحبة أيها الحبيب يرينا الرب الطريق هكذا:
أ. كراهية الخطيّة:
لأن الخطيّة يا عزيزي هي مؤشر لعدم محبتنا. أو بمعنى أوضح مؤشر لعدم اقتنائنا للمحبة بعد… لأن الخطيّة تشلّ عمل الروح القدس ويقول أحد الآباء المعاصرين: [إن الخطيّة هي الخيانة الكبرى التي ارتكبت في حق المحبة الإلهيّة]. وأيضًا يقول [هي مد يد طعنت محبة الإنسان لخالقه بالصميم فتركه ينزف دمًا قوية]. وهكذا…
+ من الكلمة الأولي: نكتشف أن الخطيّة هي حياة للمحبة لمَنْ يعيش للخطيّة أو فيها. ويتساهل معها. إنما يكون غادرًا في حق المحبة ويهينها بتفضيل الخطيّة عليها والسلوك بضدها. وهذا هو مفهوم الخيانة الكبرى التي ارتكبت في حق المحبة الإلهيّة…
+ ومن الكلمة الثانية: نلاحظ أن المحبة غير منفصلة عن الإنسان، والكبرياء في طعنه لمحبة الإنسان إنما يقضي معه علي الإنسان… ولهذا فالتوبة هي المنهل الحقيقي للمحبة، إذ في التوبة يتذوق الإنسان مدى محبة الله الذي يضع نفسه عنه ويعطيه التبرير بدمه، إذ في كل مرة نعترف بالخطيّة بتوبة وانسحاق قلب تزداد محبتنا لله وتتعمق جدًا… وهكذا بينما تقضي الخطيّة علي المحبة، تنمي التوبة المحبة…
ب. الصبر على اقتناء المحبة:
يا أخي الحبيب إذ قد وضعت في قلبك أن تعيش للمحبة وبالمحبة. فأدعوك أن تلتزم بالصبر كسمة لابد وأن تكون ملازمة لخطواتك. ففي طريق المحبة ستكتشف أن فمك نقص في محبتك ولكن عليك أن تصبر علي عدم محبتك، واعلم أن من سمات المحبين صبرهم علي ضعف حبهم بمحبة، وكذلك اطلب من الرب بشدة لكي يفيض عليك ويسكب فيك من محبته لأنه يريد ذلك ويُلح عليك الروح القدس بأنات لا يُنطق بها لكي تسلك كذلك.
+ ختامًا أيها العزيز… اسكب نفسك أمام الله الآن، واطلب منه أن يسكب فيك الحب، ويُعلِّمك نسيان الذات حتى تنطلق في طريق الحب بلا عائق عالمًا أن المحبين لهم فرحهم الخاص بهم والذي ليس هو فرح الاحتفاظ بالذات. بل فرح في تحقيقهم لحبهم، وأريد أن أقول لك كلمة أتمنى أن تحققها وأنا أيضًا معك. وهي أن الذي سيسهل لنا طريق الحب ويجعلنا ضمن جماعة المحبين لله هو الاستزادة المتعطشة لكلمات الإنجيل… فهو مدرسة الحب ومعلمه والكاشف عن وسائله وكيفيّة الامتلاء منه…
هل تعلم يا أخي الحبيب أن دخولك في طريق الحب وسلوكك بمقتضاه إنما يجعلك دون أن تدري علي صلة دائمة بالله المحبوب لأنك بهذا توجد مجالاً مشتركًا لارتباط… وهناك مَنْ يريدون الله ويرفضون الحب والالتزام بقانونه… ليس هذا هو الحق. فطلب الله مقرون بالحب، ولهذا فالحب يزيد من الارتباط بالله، والارتباط بالله يدفعنا لحياة الحب القويّة حتى محبة الأعداء وحتى نصل إلي قامة المسيح في الأبديّة بنعمته ومعونته وعمل روحه فينا…
++++++++++++++++++++++++