طبيب الخطأة
تحتل مهنة الطبيب، من النظرة المسيحية للحياة والإنسان، مكانةً خاصةً ومرموقةً جداً، ما دامت تهتم بحياة الإنسان وألمه وكيانه. فالعمل الأول من حيث الأهمية هو عمل الكاهن، الذي يهتم بتطبيب النفوس وتدريب الإنسان على حياته الحقيقية الأبدية. ومباشرة بعده يأتي عمل الطبيب، الذي يهتم بالجزء الأهم من حياة الإنسان البيولوجية المعيشية. فهو بذلك عمل يعلو على سائر الأعمال الأخرى التي لا تهتم “بالإنسان” مباشرة بل بما “حوله” أو بما “له”. وعبر التاريخ البشري ظهر هناك ثلاثة أنواع من الأطباء.
الأطباء كانوا السَحَرةْ في الشرق القديم. حيث كان هذا الشرق يؤمن بوجود “قوى” تسيطر على العالم والإنسان. وكانت الآم الناس وأوجاعهم ضرباتٍ من هذه الآلهة القديمة بسبب من غضبها أو خطأ في العبادة… لذلك كان الطبيب الذي سيرفع هذه الأوجاع والبلايا هو الساحر. ولهذا ارتبط الطبّ بالكهنوت. وكان الطب أشبه بفن لكتابة التعويذات والتعزيمات لطرد القوى الشريرة. وساعد الجهلُ العلمي على ذلك آنذاك.
الأطباء العادمو الفضة، هم الأطباء المثاليون في الكتاب المقدس. لقد جاءت الحضارة الهيلينية إلى الشرق، ولم يسمح منطقها أن تتوافق مع السحر والشعوذات. وكان لابد من “علم” حقيقي يعالج جسد الإنسان. وصار الحلّ الواقعي لمسألة الألم والأوجاع هو البحث الواقعي، أي تحليل هذا الجسد ودراسته والاعتماد على المعرفة لمعرفة طريقة حياته وطريقة صيانته ومعالجة أي فساد فيه. ومن هنا نشأت “العلوم الطبيعية”. وصارت مهنة الطبيب علماً دقيقاً.
لكن لا يمكن للطبيب أن يكون الجراح بمعنى الشرّاح، فلا يمكنه أن يستبدل أعضاءً أو يقطع أخرى أو يعالج فيها هكذا كما يتعامل مثلاً الزارع مع الأرض والشجر أو الصناعي مع الآلة. لأنه يلمس بأنامله كائناً حيّاً روحياً وفي أدق عواطفه، أي في القسم المتألم من كيانه. يتعامل الطبيب مع الإنسان في موقع خوفه أو عجزه أو ضعفه، في حيّز الألم. وللألم قدسية عظيمة في حياة الإنسان تقتضي معالجته الصادقة، والكاملة إن أمكن. لأننا إن حرمنا الإنسان سيارة هو أمر يختلف عن أن نحرمه صحته. لا أعزّ على الإنسان مما هو فيه وفي جسده. لذلك الألم في الجسد يمسّ الكيان البشري في أعمق مشاعره. وهكذا الطبيب يمسّ روح الإنسان مع جسده حين يعالج له أوجاعه وأمراضه.
هناك عملان للبشر حساسية خاصة تجاههما. وهما عمل الكاهن وعمل الطبيب. فهما العملان اللذان حين ينجحا عملياً وروحياً يحظيان باحترام من الناس لا مثيل له. والعكس بالعكس، إذا فشلا يرّتد عليهما البشر بعداوة لا نظير لها. فهما عملان –إن صح التعبير- خطِران بسببٍ من قدسيّتهما، وخاصة عمل الكاهن الذي يتطلب ليس إنسانية أو مهارة فقط، كما في مهنة الطبيب، ولكن أيضاً مثاليةً صورتُها كصورة المسيح ذاته.
لهذا، إن الصورة المثالية للطبيب في الكتاب وفي المفهوم المسيحي ليست صورة الجرّاح البارع، بل صورة الطبيب الصادق والمتفاني، الطبيب الذي يدهن جراح النفس والجسد معاً. الذي يضمّد جراح الواقع بين اللصوص، ثم يعتني به ويحمله على دابته الخاصة ويهتم بأمره (مثل السامري الصالح). عرف التاريخُ المسيحي قديسين عديدين كانوا يزاولون مهنة الطب، ومن هذا المنظار. ولقد دُعي هؤلاء بالأطباء العادمي الفضة، أي الذين لم يكونوا يتقاضون الفضة (المال) أجراً على مهنتهم. لقد كان الطب لديهم رسالةً روحيةً قبل أن يكون مهنةً يقايض فيها الطبيبُ حياةَ الإنسان ببعض من المال! لا يوجد احترام أعظم من هذا لقيمة حياة الإنسان ولجسده وعافيته. وهذه “المعاملة” الروحية للمهنة صارت “قداسةً” لهم. ونال العديد منهم موهبةَ الأشفية، أي تطبيب الجسد في حالات كان علمُهم غيرَ قادر بعدُ على معالجتها. وأجروا العديد من العجائب: “مجاناً أخذتم مجاناً أعطونا”، هكذا ترنّم لهم الكنيسة. لأنهم نالوا موهبة الأشفية ولطالما، بهذه العجائب، شفوا الروح أيضاً مع أشفية الجسد، وصاروا رسلاً في مهنتهم فطببوا النفس والجسد. هذا شيء من صورة العالم في صورته وغايته الروحية الأخيرة.
رغم كل ذلك، وحتى في حالة الأطباء العادمي الفضة العلماء والعجائبيين، لا يستطيع الطبيب أن يلعب دوراً أكبر من “تمديد” حياة الإنسان، إذ نجح! فهو يزيد على كوب الماء نقطة، ولكن هذا الكوب سيهترئ حكماً وسينكسر يوماً ولن يعود فيه ماء، ولا تفيد ولا حتى إمكانية إضافة بعض النقاط عليه. للطب أهمية عظيمة حين يخففّ الآم الناس، أو يؤجل الموت في حالات خاصة، لكن لشهور أو سنوات قليلة في أحسن الأحوال. هناك إذن حالة “عجز” طبي أمام هذا الجسد الفاني بالنهاية. ويبدو أن التراب، ولو جُبل، سيعود إلى التراب. ولكم ظنّ البشرُ أنّ حياةَ الإنسان أشبهُ بمسرحية، يلعب فيها الواحد دوره للحظة ثم يختفي! يبقى الموت هو القدرُ الذي يُبطلُ في النهاية كل محاولةٍ ويحقِّر كلَّ نجاحٍ طبيّ ويهزأ بكل عظمة أو معالجة..!
طبيب الخطأة، هو الطبيب الوحيد الحقيقي بالنهاية، إنه يسوع الذي غلب الموت، فلم يعالِج مسألةَ تمديدٍ في الحياة بل أنقذ الحياةُ عينها! إنه طبيبٌ يجعلنا لا نموت! طبيب كهذا لم تعرف البشرية سواه.
جاء يسوع وتحسّس على الفور آلام البشر وأوجاعهم. لا يقبل الكتاب المقدس بالسحر، على العكس، يعطي دوراً للعلم في تحسين الواقع البشري. لكنّ الكتابَ يعترفُ بوضوح بوجود بعض الحالات الشيطانية. لذلك تتكرر في العهد الجديد عبارة عن يسوع: “وكان يشفي الأمراض ويطرد الشياطين” (متى 8، 16). وكلا العملين هم بداياتُ وإشاراتُ مسبقة عن ماهية ملكوت المسيح الذي جاء ليؤسّسه. العجائبُ العديدة التي “أصلح” فيها يسوع الجسد البشري المعطوب (مخلع -منحنية) وحتى الإقامات، التي أحيا فيها يسوع الجسد بعد موته، كلها تدّل وتبرهن على سلطته. إنها الامتحانات العديدة التي برهنت نجاحه في مواجهة الجسد البشري الفاني والمعرّض للتلف حتى الموت أيضاً. هذه العجائبُ وطردُ الشياطين أيضاً برهان قاطع على أن يسوع يملك القدرة على معالجة هذا الفناء في الجسد الإنساني، وهو قادر أيضاً على طرد الشياطين. إنها صورة مسبقة لملكوته الآتي الذي جاء يبشرنا به، حيث لا وجع ولا تنهد ولا موت بل حياة لا فناء ولا تلف فيها.
تضعنا عجائب يسوع في الأشفية وفي طرد الشياطين أمام رجاء حالة “المعافاة” والصحة الحقيقية، حيث لا تمدّد حياة الإنسان بل تُوهب (حياة الجسد)، وحيث لا يؤجَّل الموتُ بل يُلغى من قدر هذا الجسد. “المسيح قام” بشارة للجسد وليس للروح فقط. جسد يسوع الناهض هو “بداية” و “صورة” جسدنا الذي سيهبنا إياه “طبيب الخطاة”.
إنه الخالق الذي سيجدّد خليقته ويجعلها لا تعاني من نظام التلف والفناء. يمسخُ البعض المسيحية إلى مجرّد دين بمعناه الشرائعي الأخلاقي. ويغطّون هذا “المسخ” برفع شأن هذا الدين الجديد فوق كل شرائع الدنيا التي ظهرت. ليست فرادةَ المسيحية شريعتُها. وكتابة شريعة جديدة لا تحتاج لمهارة ولا ليسوع! أيُّ منا يمكنه الآن أن يزيد على “وصايا” الكتاب مزايدات ويخترع شريعة، كما يلقبّها الناس، أسمى! جاء يسوع لأمر لا يستطيعه أي إنسان، لم يأت من أجل شريعة ولم يترك شريعة، لقد جاء من أجل عاهاتنا وأمراضنا، “وحمل أوجاعنا”. لقد جاء ليعطينا جسداً لا يتألم ولا يمرض ولا يفنى. إنه الطبيب الحقيقي الذي يطبِّبُ ليس مرضاً “محدداً” وإنما يجدِّدُ هذا الجسد ويُلبِس طبيعتَنا البالية “حلّة عدم الفساد” كما تقول ترانيم الفصح المجيد.
طبيب الخطأة سيجعل جسدنا كجسده. لقد خرج يسوع بجسده من القبر والأبواب مغلقة، وهكذا دخل العليّة إلى تلاميذه. لم يعد جسده لا خيالاً ولا بالياً، لا يحتاج لطعام ولا يهدّده مرضٌ أو ألم. إنّ البِلى هي حالة عامة جاء يسوع يبشرنا برفعها واستبدالها. ليس كَلُّ مرضٍ هو نتيجة الخطيئة الشخصية. لأن البلى هي حالة طبيعتنا بعد السقوط. لذلك لم يقبل يسوع مرات عديدة الفكر اليهودي الذي كان يربط المرض بالخطايا الشخصية. لذلك سأل التلاميذُ يسوع أمام الأعمى منذ مولده “من أخطأ هذا أم أبواه”، ولهذا قالوا للأعمى “بالخطايا ولدتك أمك”. لكن يسوع يشير في حالات عديدة إلى ارتباط عام وليس شخصياً في حالات المرض بين الخطيئة والبلى. لهذا قال للعديد من المرضى الذين عافاهم: “ها قد عوفيت فلا تعد تخطئ”. ليس الأبرص -مثلاً- ملعوناً من الله. وإلاَّ فكيف نفسّر الآم البار؟ لكن هذا البلى الذي في طبيعتنا هو صفة حياة الإنسان بعد السقوط، أي من مظاهر الخطيئة عامة.
يسوع، طبيب الخطأة، جاء وأظهر بداية “المعافاة” من الأمراض والشرور، حين أجرى الأشفية وطرد الشياطين، لكنه سيرفع كل فَناء من جسدنا البالي. دواءُ يسوع ليس جرعاتٍ طبيّة تخفّف آلاماً أو تمدّد من زمن الحياة القصير. دواء يسوع هو القيامةُ التي ستحرِّر الجسدَ من كلِّ احتمالِ مرض أو وجع أو حتى موت.
المسيح قام، فلا موت ولا مرض ولا جوع ولا عطش. المسيح قام والمعافاة الكاملة العامة قريبة.
ما خانَهَ السَحَرةُ وما عجِزَ عنه ألطفُ وأبرعُ الأطباء جاء يسوع ليشفيَه، لقد لبسَ طبيعتنا فحررّها، حملَ أوجاعنا فشفاها ولبس فناءنا فألغاه، ووهبنا الحياة الخالدة إلى الأبد. المسيح قام.